للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَصاكَ»

فألقاها حالا دون تردد، امتثالا لأمره من غير أن يعلم المراد من إلقائها «فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ» تنحرك بشدة «كَأَنَّها جَانٌّ» حية صغيرة لشدة اضطرابها، وتقدم في الآية ١٠ من سورة الأعراف والآية ١٥ من سورة طه والآية ٣٢ من سورة الشعراء فقد بينا فيها التوفيق بين ما جاء فيها هنا وهناك، فراجعها.

فلما رأى حركة عصاه وما انقلبت إليه هاله شأنها فتأخر عنها، وهو معنى قوله تعالى «وَلَّى» ظهره محلها «مُدْبِراً» عنها وهرب خوفا مما رأى وازداد اضطرابه «وَلَمْ يُعَقِّبْ» يرجع ويلتفت عقبه إليها ثم ناداه عز وجل ثانيا «يا مُوسى لا تَخَفْ» مما رأيت، ارجع لأني أريد أن أجعلك رسولا لي «إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ» ١٠ لأني آمنتهم مما يخافون. واعلم أن الله تعالى يفعل هذه المقدمات مع خلص خلقه من عباده الذين يختارهم لنبوته، ويصطفيهم لرسالته، بداية أمرهم إرهاصا لأقدارهم على تلقي وحيه، ليتوطنوا عليه، ويعلموا كيفية نزوله، وهذا الخوف غير الخوف الذي هو شرط الإيمان، فإن ذلك لا يفارقهم، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أنا أخشاكم لله- راجع الآية ٢٧ من سورة فاطر المارة-

ثم استثنى من عموم كلامه قوله «إِلَّا مَنْ ظَلَمَ» منهم بفعل ترك الأفضل وما هو خلاف الأولى أو زل عن غير قصد أو استعجل في أمره كآدم ونوح وداود وسليمان وإبراهيم ويونس عليهم السلام، وقد سبقت الإشارة إلى ما صدر من كل منهم وتأويله وتفسيره ودواعيه في محله، وقد سمى الله ما حدث منهم ظلما بالنسبة إليهم، راجع الآية ٢ من الأعراف المارة والآية ٢٣ من ص والآيتين ٦٣ و ٨٥ من سورة هود في ج ٢، قال تعالى «ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ» تاب وندم على ما صدر منه، وقد سماه سوء أيضا نظرا لمقامهم وإلا في الحقيقة لا يسمى ظلما ولا سوء بالنسبة لغيرهم، لأنه على حد حسنات الأبرار وسيئات المقربين «فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ» ١١ به أعفو عما صدر منه ثم ناداه ثالثا بقوله «وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ» اجعلها تحت إبطك «تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ» برص، فأدخلها امتثالا لأمره، من غير أن يعرف الغاية منها، ثم أخرجها فإذا هي تبرق كالشمس، وبعد أن توطن لكلام الله قال اذهب «فِي تِسْعِ آياتٍ» مع هاتين الآيتين كما بيناها

<<  <  ج: ص:  >  >>