والحد ما يتناهى إليه الفهم في معنى الكلام فهو غاية ما ينتهي إليه عقل البشر وإلا فهو بحر خضم لا ساحل له يهب لمن يريد من عباده ملكة الولوج فيه فيوقع في قلبه نورا يبصّره ببعض معانيه كما يلقي الروح على من يشاء من عباده فلا ينبغي لمن له أدنى مسكة من عقل أو ذرة من إيمان أن ينكر اشتمال القرآن على بواطن يفيضها المبدأ الفياض على بواطن من يختاره من عباده.
هذا وليعلم أن ما من حادثه ترسم بقلم القضاء إلا وفي القرآن العظيم إشارة إليها كيف لا وقد قال منزله (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) الآية ٣٨ من سورة الأنعام في ج ٢، وقال جل شأنه (وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ) الآية ١٥٢ من الأنعام أيضا، راجع ما بيناه آخر المطلب السابع في هاتين الآيتين وتفسيرهما في محلهما، ومن يجهل معنى هذا فعليه بالعارفين، قال تعالى:(فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) الآية ٧ من سورة الأنبياء في ج ٢ وقال جل قوله (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) الآية ٥٩ من سورة الفرقان الآتية.
[مطلب حكاية واقعة:]
ذكر بن خلكان في تاريخه ان السلطان صلاح الدين الأيوبي رحمه الله لما فتح حلب أنشد القاضي محي الدين قصيدة بائية من جملتها:
وفتحك القلعة الشهباء في صفر ... مبشر بفتوح القدس في رجب
فكان كما قال فسئّل من أين لك هذا، فقال: أخذته من تفسير ابن برجان في قوله تعالى: (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) الآية من أولها الآتية، قال المؤرخ فلم أزل أتطلب التفسير المذكور حتى وجدته على هذه الصورة وذكر له حسابا طويلا وطريقا في استخراجه وله نظائر كثيرة، ومن المشهور استنباط ابن الكمال فتح مصر على يد السلطان سليم من قوله تعالى:(وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) الآية ١٠٥ من سورة الأنبياء في ج ٢، على أن المراد بالأرض أرض الدنيا، أما أرض الآخرة فلا يرثها إلا عباد