دحية الكلبي مرارا وبصورة اعرابي غير معروف وسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة في الحديث المشهور «وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ ٩» بأن نجعل الملك بصورة البشر فنوهم عليهم ونشبّه لهم فنشكل الملك بالبشر حتى يختلط عليهم الأمر فلا يعرفوه أبشر هو أم ملك، فيظنونه بشرا ويقولوا مقالتهم هذه بأنهم لا يرضون برسالة البشر، وتعود المسألة بحالها دورا وتسلسلا، وإذ ذاك أيضا يقولون ما هو إلا بشر مثلكم فكيف تطيعونه، هذا وإن محمدا صلّى الله عليه وسلم في الحقيقة بشر ولكنه ليس مثلهم، لأن الله تعالى فضله بوحيه وشرفه برسالته، وأعطاه ميزة على جميع خلقه وخصّه بأشياء لم يطلع عليها غيره، لهذا فإنه صار بحقيقة سامية وصفة كريمة لا يقدره إلا الذي أرسله، ولله در القائل:
محمد بشر وليس كالبشر ... محمد جوهر والناس كالحجر
وقال الأبو صيري:
وكيف يدرك في الدنيا حقيقته ... قوم نيام تسلوا عنه بالحلم
فمبلغ العلم فيه أنه بشر ... وأنه خير خلق الله كلهم
دع ما ادعته النصارى في نبيهم ... واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم
ثم شرع يسليه ربه بذكر ما وقع لإخوانه الرسل قبله مع أممهم فقال جل قوله «وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ» كما استهزأ بك قومك «فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ» العذاب الذي لا مرد له، وحاق بمعنى حل ونزل وتفيد معنى الإحاطة ولا تكاد تستعمل إلا بالبشر وقيل في المعنى:
فأوطأ جرد الخيل عقر ديارهم ... وحاق بهم من بأس ضربة حائق
وهذه الإحاقة جزاء «ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ١٠» فاهلكوا جميعا بسبب إيذائهم أنبيتهم، وفيه تحذير لكفار مكة بأنهم إذا لم يقلعوا عما هم عليه من الإيذاء لحضرة الرسول فإن الله يسلط عليهم عذابا يهلكهم به كما فعل بغيرهم
«قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا» ببصركم وتأملوا ببصيرتكم على تأويل النظر بالاعتبار، وقد يؤول السير أيضا بالاعتبار وبالشيء على الأقدام، أي اعتبروا وانظروا «كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ١١» أمثالكم إذ أورثهم كفرهم