لرأيت أمرا فظيعا هالك مرآه، لأنهم إذ ذاك «يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ» عند الاقدام «وَأَدْبارَهُمْ» حال الانهزام والأفظع من هذين الأمرين أنهم يقولون لهم بعد الموت موتوا «وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٥٠) » في جهنم فهي مثواكم في الآخرة
«ذلِكَ» الذي حل بكم أيها الكفار في الدنيا من القتل وفي الآخرة من العذاب هو «بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ» من الشرك والمعاصي وظلمكم أنفسكم بذلك.
ووصفت اليد لأنها آلة العمل المؤثرة، وإلا فالكفر محله القلب وعلامته اللسان «وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (٥١) » إذ لا يعذب أحدا بلا ذنب، على أنه لو فعل فلا يعد ظلما لاستحالة نسبة الظلم إليه، لأنه المالك المطلق وللمالك التصرف بملكه كيف يشاء، ألا ترى أنك إذا هدمت دارك أو أخربت ما هو ملكك لا يعترضك فيه أحد؟ وإن عادة هؤلاء الكفار في كفرهم «كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٥٢) » بحيث لا تطيقه الجبال الحديدية. وفي هذه الآية تهديد ووعيد لهؤلاء الكفار والمنافقين من أمة محمد صلّى الله عليه وسلم، وإعلام بأنه تعالى سيعذبهم في الدنيا بالهلاك وفي الآخرة بالنار، كما عذب أولئك في الدنيا ويعذبه مفي الآخرة.
والدأب إدامة العمل. وسميت العبادة دأبا لمداومة الإنسان عليها «ذلِكَ» العذاب والانتقام «بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» كي يكونوا هم السبب في ذلك ويندموا من حيث لا ينفعهم الندم، لأن ما يحدثه للخلق من بعض ما هو مدون في أزله قبل خلقهم، إذ لا يقع شيء إلا وهو مسجل في اللوح المحفوظ ثابت في علم الله «وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ» لما يقع من عبده سرا أو جهرا «عَلِيمٌ (٥٣) » به قبل وقوعه. وليعلم كل إنسان أن يذكر مع كل نعمة زوالها كي يحافظ عليها بالشكر، ويذكر مع كل بلية كشفها ليحافظ على الرجاء من الله فإن ذلك أبقى للنعمة، وأسلم من البطر، وأقرب من الفرج، لأن الدنيا دار تجارة، فالويل لمن تزود منها الخسارة، ويكفيك أنها مزرعة الآخرة، وقيل في المعنى في هذا:
إذا أنت لم تبذر وأبصرت حاصدا ... ندمت على التفريط في زمن البذر