وتشير هذه الآية إلى أن الله تعالى أرسل محمدا نعمة عظمى لأهل مكة خاصة مكملة لنعمهم الأولى من جوارهم لحماه، وأمنهم مما يخافون، ومما يخافه غيرهم، وتخويلهم رحلة الشتاء والصيف، فلم يقدروها ولم يشكروها، بل قابلوها بالكفر والجحود، فنقله الله عنهم إلى الأنصار لأنه رحمة للعالمين أجمع، راجع الآية ٢٩ من سورة إبراهيم في ج ٢، والآية ٤٣ من سورة الرعد الآتية. وديدنهم هذا «كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ» لما كفروا بموسى عليه السلام «وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ» وكفروا بأنبيائهم أيضا «فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ» بعضهم بالخسف وبعضهم بالصيحة ومنهم بالحجارة ومنهم بالمسخ والغرق، وحرم فرعون نعمة موسى إذ نقلت لبني إسرائيل الذين اتبعوه «وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ» وأنجينا موسى وقومه «وَكُلٌّ» من المعذبين والمهلكين «كانُوا ظالِمِينَ (٥٤) » أنفسهم وغيرهم، فأخذناهم بظلمهم. وقد كررت ألفاظ هذه الآية تأكيدا لأنها جرت مجرى التفصيل للآية الأولى التي ذكر فيها أخذهم وكفرهم بآياته، وفي الثانية إعراضهم وتكذيبهم بآياته. قال تعالى «إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥) » لا يتوقع إيمانهم لتوغلهم بالكفر، وهؤلاء «الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ» يا سيد الرسل «ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (٥٦) » (٥٦) نقض العهد مع أنهم أهل كتاب ودين يجب عليهم الوفاء به وعدم النكث بمقتضى كتابهم ودينهم، وهم على العكس شأنهم شأن الذين لا دين لهم بل أضل. قد نزلت هذه الآية في بني قريظة المار ذكرهم في الآية ٢٦ إذ عاهدهم الرسول أولا على أن لا يحاربوه ولا يعاونون عليه، فنقضوا عهدهم وأعانوا مشركي العرب عليه بسلاحهم، وقالوا نسينا وأخطأنا، ثم عاهدهم ثانيا فنكثوا أيضا ومالئوا عليه الكفار يوم الخندق، وذهب رئيسهم كعب بن الأشرف إلى مكة وحالف قريش وأهلها على حرب الرسول. وقال سعيد بن جبير: نزلت في ستة رهط من اليهود منهم ابن تابوت كانوا عاهدوا ثم نقضوا.
قال تعالى «فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ» يا محمد فتجدنّهم وتصادفنهم «فِي الْحَرْبِ» فتظفر بهم «فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ» أي نكّل بهم غيرهم بأن تقتلهم قتلا ذريعا