واعلموا أيها الناس أن ذلك الإله الجليل الذي ستعرضون عليه في ذلك اليوم «يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ» استراق النظر من أحدنا إلى ما لا يحل، فكل نظرة لما نهى الله عنه تسمى خائنة يحاسب عليها العبد، ألا فليتق الله الإنسان وليصرف نظره عن المحارم إلى ما أحل الله والتفكر في ملكوته والتملي من كتابه، ولا يستحسن إلا الحسن الجائز له أن يستحسنه، قال بعض العارفين:
وعيني إذا استحسنت غيركم ... أمرت الدموع بتأديبها
لأن البكاء من خشية الله يطهر المساويء «وَما تُخْفِي الصُّدُورُ ١٩» يعلمه أيضا وما هو أخفى لاستواء السر والعلانية عنده، فكل ما تضمره القلوب من خيانة أو غل أو غش أو حسد أو غيره يعلمه الله، فافعلوا ما شئتم أيها الناس فهو لكم بالمرصاد «وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ» بينكم وبينه وبينكم وبين عباده وأعدائه، لا رجاء ولا رشاء ولا مودة ولا مكانة ولا مال ولا جاه ولا منصب ولا عشيرة «وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ» أوثانا ويعبدونها بدله أو يشركونها معه بالعبادة «لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ» لدعاتهم ولا لعبادهم في ذلك اليوم وقد كانوا في الدنيا يقضون بينهم بحق وباطل بحسب ما تهواه أنفسهم، أما اليوم فالحكم كله لله ولا يكون إلا بالحق وهذا من قبيل التهكم فيهم، لأن من لا يوصف بالقدرة لا يقال له يقضي أو لا يقضي، وهذا أبلغ من جعل يقضي هنا من باب المشاكلة لأن القصد السخرية بهم لا الاستدلال على صلاحيتهم للإلهية والقضاء. واعلم أنا قد نأتي بالضمائر في مثل هذا كضمائر العقلاء موافقة لزعم عابديها، لأن القرآن العظيم أتى بمثل ذلك لهذا الفرض «إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ» لأقوال خلقه «الْبَصِيرُ ٢٠» بأفعالهم فيكافيء كلا بما يستحقه بمقتضى عمله، وفي الآية تعريض بأن أصنامهم لا تبصر ولا تسمع ولا تعلم ولا تقدر على شيء،
قال تعالى «أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ» وكيف أهلكناهم وبقيت ديارهم خاوية «كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ» من قومك يا سيد الرسل «قُوَّةً» على تحمل المشاق والقتال وغيره «وَآثاراً فِي الْأَرْضِ» أيضا أكثر منهم لأنهم مكثوا فيها وعمروا أكثر منهم كما يعلم من المعالم المتروكة عنهم وأطلال ديارهم،