وما لم يعدد خلقها «مَتاعاً لَكُمْ» أيها الناس تتمتعون بها في حياتكم «وَلِأَنْعامِكُمْ» ٣٣ متاعا أيضا لأنها خلقت لمنافعكم. ولما ذكر الله تعالى لمعة من بدء الخلق المشعرة عن توحيده بعد ذكر النبوة، أعقبها بذكر المعاد، لأنه أحد الأصول الثلاثة التي لا ينفك ذكر بعضها عن الآخر، كما أشرنا إليه في الآية ٢٨ من سورة النبأ المارة، فقال جل قوله «فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى» ٣٤ والداهية العظمى وهي القيامة التي تطم كل شيء لشدة هولها وكل شيء دونها «يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ» فيها «ما سَعى» ٣٥ في دنياه وكسبه من خير أو شر لا ينسى منه شيئا «وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى» ٣٦ فلا تخفى على أحد وهناك ينقسم الخلق إلى قسمين «فَأَمَّا مَنْ طَغى» ٣٧ على الناس في دنياه وبغى على حقوقهم «وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا» ٣٨ على الآخرة، وهذا هو القسم الأول المشار إليه في الآية ٧ المارة «فَإِنَّ الْجَحِيمَ» المذكورة، وأظهرت بدل اضمارها لسبق ذكرها تهويلا لشأنها وتخويفا لأهلها. واعلم أيها القارئ أنه لا يأتي الاسم الظاهر مقام المضمر إلا لأمر ذي بال كما هنا، ومثله في القرآن كثير «هِيَ الْمَأْوى» ٣٩ لهم لا ملجأ لهم غيرها. ثم ذكر القسم الثاني بقوله عز قوله «وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ» بين يديه في موقف تلك الطامة وعلم أنه محاسب على ما يأتي ويذر في دنياه «وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى» ٤٠ فزجرها وكفّها عن الشهوات المحرمة خوفا من الله تعالى
«فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى» ٤١ لهم يمرحون فيها كيفما شاءوا وأرادوا، وهذه الآيات الثلاث بمقابل الآيات الثلاث قبلها.
واعلم أن الخوف مقدم على العلم، قال الله تعالى (إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) الآية ٣٨ من سورة فاطر في ج ١، ولما كان الخوف من الله سببا لدفع الهوى وهو علّة فيه، قدّمه عليه، فمن أعرض عن هوى نفسه وخالقها في مقامه هذا وعرف أنه يعاقب على الإقدام عليها ويثاب عن الإعراض عنها باعتقاد جازم كان مصيره الجنة عند ربه الذي خافه وترك شهوته من أجله، و (من) في الآيتين عامة في كل من يتصف بهما. والهوى مطلق الميل إلى الشهوات فهو يهوي بصاحبه في الدنيا إلى كل داهية، وفي الأخرى إلى الهاوية، فالسعيد من ضبط نفسه بالصبر