عن قريتها الناصرة بأربعة مراحل تقريبا، ولذلك وصفته بالبعد في الآية لانه في ذلك الزمن يعد بعدا بعيدا، وكان الجذع بالبرية على مستوى من أرض بيت لحم يابسا، فاستندت إليه وتمسكت به عند شدة الطلق، ولما رأت وحدتها وما حل بها وتفكرت بما سيصمها به قومها «قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا» الأمر الذي حل بي الذي سيصيبني منه ما يصيبني «وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا» ٢٣ لم أذكر ولم أولد، فولدته عند ذلك، وقد سمع كلامها «فَناداها مِنْ تَحْتِها» قائلا لها يا أماه «لا تَحْزَنِي» على وحدتك وما سيتفوه به الناس فيك، وافرحي «قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا» ٢٤ عبدا شريفا رفيعا سيدا كريما، ومن تأت بمثل هذا ينبغي لها أن تفرح لا أن تحزن. وقال بعض المفسرين إن (سريا) جدول ماء جار هناك بمحل الولادة، ومعنى لا تحزني على الطعام والشراب معتدلا بالآية ٢٥ الآتية وهو بغير محله، ولا طائل تحته، إذ يبعد على مثلها أن تحزن على الطعام والشراب.
وأما الحديث الذي رواه الحاكم في مستدركه عن البراء من أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السريّ، فقال هو الجدول، وذكره البخاري تعليقا موقوفا عليه، فلم يصح، وإذ لم يصح لا يتخذ حجة لأن الدليل إذا طرقه الاحتمال أفقده الاستدلال وأسقط حجيته، وإن اطلاق السريّ على جدول الماء الجاري من حيث اللغة صحيح معروف، وجاء في قول لبيد:
فتوسطا عرض السريّ فصدعا ... مسجودة متجاوزا قلامها
يصف عيرا وأتانا. وأنشد ابن عباس:
سهل الخليقة ماجد ذو نائل ... مثل السري تمده الأنهار
إلا أنه غير مراد هنا وأراه غير موافق للواقع أيضا، إذ لا يوجد هناك في بيت لحم نهر جار البتة لا في محل الولادة ولا في غيرها، بل يوجد آبار ولعلها كانت قريبة التناول، وكانت عينّا معينا. أما ما جاء في الآية ٥٠ من سورة المؤمنين في ج ٢ وهي قوله تعالى (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) فهو غير مراد هنا بل هو في محل هجرة عيسى عليه السلام مع أمه كما سيأتي توضيحه هناك،