ما كان منه بالباطل من الطعن في آيات الله المبرأة من الطعن، وما كان القصد منه ادحاض الحق وإطفاء نور الله عز وجل، يؤيد هذا ما سيأتي من تشبيه حال كفار مكة بكفرة الأحزاب قبلهم. أما الجدال في آيات الله لإيضاح ملتبسها وحل مشكلها ومقاومة آراء أهل العلم في استنباط معانيها وبلاغة مبانيها وردّ شبه أهل الزيغ عنها وإحراقهم بإفحامهم وإظهار جهلهم فيها فهو أعظم من الجهاد في سبيل الله تعالى، وهو لازم على كل قادر كامل عارف في كلام الله. هذا، وما نقلناه من الأخبار أعلاه يومىء إلى هذا إذ يشعر أن نوعا من الجدال في القرآن كفر فدحضه من أعظم القربات لله تعالى وهذا يسمى جدالا عن آيات الله لا في آيات الله، فلذلك كان محمودا لأن الجدال يتعدى بعن إذا كان للمنع والذّب عن الشيء، ويتعدى بغي إذا كان بخلافه وهو المذموم «فَلا يَغْرُرْكَ» يا سيد الرسل «تَقَلُّبُهُمْ» تصرف الكفرة المجادلين «فِي الْبِلادِ ٤» ذاهبين آئبين سالمين غانمين في تجاراتهم وزراعاتهم وزياراتهم، فإن عاقبة أمرهم الهلاك والخسار، ومرجعهم إلى العذاب والدمار.
واعلم أنه كما كذبك قومك «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ» الرسل أمثالك «قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ» الذين تحزبوا على رسلهم بالتكذيب وقاتلوهم فنصر الله رسله عليهم، وفي هذه الآية إشارة إلى أن قوم محمد وأقاربه سيتحزبون عليه أيضا، وقد كان منهم ذلك كما سيأتي في الآية ٩ من سورة الأحزاب في ج ٣، «وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ» فيقتلوه، وفي هذه الجملة إيماء أيضا إلى أن قوم محمد سيهون بقتله وكان منهم أيضا كما سيأتي في الآية ٣١ من سورة الأنفال، وسيأتي تفصيله في بحث الهجرة في سورة العنكبوت إن شاء الله. هذا سببها الظاهري، أما سببها الباطني فهو علو شأن الإسلام وشموخ حكمته وارتفاع رايته وتعظيم أهله «وَجادَلُوا» رسلهم «بِالْباطِلِ» كما جادلوك به «لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ» الذي جاءوهم به ويمحقوه بقصد إبطاله، ولكن الله تعالى يأبى إلا أن يتم نوره ويطفىء كلمة الكفر على رغم أنفهم. قال تعالى «فَأَخَذْتُهُمْ» ودمرتهم عقابا لفعلهم ذلك «فَكَيْفَ كانَ عِقابِ ٥» إياهم أي كان عقابا مهولا يتعجب منه المتعجبون «وَكَذلِكَ» مثل ما وجب العذاب على أولئك أقوام الرسل قبلك