البخل، والكل محال عليه تعالى، فامتنعت الإضاعة وحل الإحسان، وهو يعم أمورا كثيرة وحقيقة الشاهد والعيان، قال صلّى الله عليه وسلم في حديث جبريل الذي رواه مسلم عن عمر رضي الله عنه، قال أخبرني عن الإحسان، قال أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وهذه الرؤية ليست برؤية عيانية بل حالة تحصل عند الرسوخ في كمال الإعراض عما سوى الله، وتمام توجهه إلى حضرته المقدسة بحيث لا يكون لسانه وقلبه وهمه غير الله تعالى، وسميت هذه الحالة مشاهدة لمشاهدة البصيرة إياه تعالى كما أشار إليها بعض العارفين بقوله:
خيالك في عيني وذكرك في فمي ... وحبك في قلبي فإين تغيب
وقال الكندي:
وفي أربع مني حلت منك أربع ... فما أنا أدري أيها هاج لي كربي
خيالك في عيني أم الذكر في فمي ... أم النطق في سمعي أم الحب في قلبي
قال تعالى:«وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ» من أجر الدنيا مهما كان عظيما وهو مهيء «لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ ٥٧» الله تعالى فيأتمرون بأمره وينتهون بنهيه وفيه إشارة إلى أنه كان من المتقين زمن الهم والميل، واعلام بأن الله تعالى أعد ليوسف عليه السلام في الآخرة أعظم مما أتاه في الدنيا قالوا ولما اشتد القحط وعم البلاء احتاج أهل البادية إلى الميرة من الحاضرة فأتوا مصر ومن جملتهم أهله حيث كانوا نازلين بالعربات من أرض فلسطين عند ثغور الشام فقال السيد يعقوب عليه السلام لأولاده بلغني أن بمصر ملكا صالحا يبيع الطعام فاقصدوه ثم جهزهم وأرسلهم وذلك قوله تعالى «وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ٥٨» جاهلون كونه هو إذ لم يعرفوه البتة، وذلك لأنهم جاءوا عليه على حالتهم البدوية التي تركهم عليها، فعرفهم هو لذلك وهم رأوا ملكا متوجا بتاج الملك بزي ملوك مصر فمن أين يعرفونه، على أن العرفان يخلقه الله تعالى في القلب ولم يخلقه فيهم إذ ذاك ليحقق الله ليوسف عليه السلام ما وعده به في قوله (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) الآية ١٥ المارة.