«فَاخْرُجْ مِنْها» أي الجنة ويستلزم الخروج منها الخروج من السماء أيضا، والخروج من زمرة الملائكة الذين كانوا يغبطونه على ما هو عليه من العبادة لله والعلوم والمعارف التي أنتجت ذلك الغلو وانبثقت عن الجهل المفرط الراسخ في قلبه، إذ ظن أن الفضل باعتبار المادة، وما درى أن يكون باعتبار التحلي بالمعارف الرّبانية، قال:
فشمال والكأس فيها يمين ... ويمين لا كأس فيها شمال
وما عرف أن الأدب هو المقدم الأول في الفضائل كلها ولله در القائل:
كن ابن من شئت واكتسب أدبا ... يغنيك محموده عن النسب
ولما فضح الله سريرته على ملأ من الملائكة الذين كانوا يحترمونه ويفضلونه على أنفسهم وأبان لهم قريطه، وعلموا أن عبادته ونشر علمه بينهم في مخالطته لهم رياء لنشر السمعة والصيت بينهم بقصد التعاظم عليهم أمره بالخروج من بين الطائعين الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون به من قبله. قال جل جلاله مبينا جزاءه الدنيوي على مخالفته هذه واحتجاجه الواهي ومقابلة عظمة ربه بما فاه به على رؤوس الأشهاد وبيّن العلّة في ذلك بقوله عزّ قوله «فَإِنَّكَ» بامتناعك هذا «رَجِيمٌ ٣٤» طريد من الرحمة والكرامة بعيد من العطف واللطف «وأنّ عليك اللّعنة» عقوبة لك في الدنيا مني ومن خلقي مستمرة «إِلى يَوْمِ الدِّينِ ٣٥» يوم الجزاء الذي يكون عليك فيه العذاب المهين الدائم، ولم يجعل الله حدّ ابعاده عن فيض رحمته بضرب هذا الأجل كما يفهمه البعض من معنى إلى النائية، بل جعله غاية في البعد لأنه أي يوم القيامة أبعد ما يضرب الناس المثل في كلامهم إليه من الآجال البعيدة لا أنها أي اللعنة تنقطع عنه بعد ذلك اليوم، كلّا بل تكون في الدنيا مستمرة بلا عذاب حسّي من الله والناس أجمعين، وفي الآخرة دائمة عليه أيضا مع العذاب الأكبر الباقي، ولما عرف الخبيث أن سقط في يده ولم يبق له بدّ من تلافي عصيانه لربه ولا أمل في فيض رحمته، أراد بحسب طويته النجسة أن يتمادى في الضلال والإضلال «قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ٣٦» أي كافة مخلوقاتك، لأنه عارف بالبعث بعد الموت، وأنه لا موت بعد