فليس له أن يأخذ بالعزيمة بل يجب عليه الأخذ بالرخصة، وإذا قتل ولم يأخذ بالرخصة فهو آثم، وهذا هو الحكم الشرعي في ذلك. «وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً» والعياذ بالله بعد أن كفر بلسانه وطابت نفسه به وبقي عليه «فَعَلَيْهِمْ» أي الكافرين وجمع الضمير باعتبار معنى من «غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ» في الدنيا «وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» ١٠٦ في الآخرة «ذلِكَ» الغضب والعذاب «بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا» وزخارفها وآثروها «عَلَى الْآخِرَةِ» وكفروا بطوعهم واختيارهم «وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ» ١٠٧ ولا يوفقهم للرشد والإيمان «أُولئِكَ» الذين استحبوا الكفر على الإيمان هم «الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ» فلم يجعلهم ينتفعون بها لأنهم صرفوها إلى غير ما خلقت لها «وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ» ١٠٨ عن الله وعما يراد بهم المتوغلون في الغفلة الكاملة، لأن الغفلة عن تدبير العواقب هي غاية في الغفلة ونهاية في اللهو «لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ» ١٠٩ حقا لأنهم ضيعوا رءوس أموالهم وهي أعمارهم وصرفوها فيما يفضي للخلود بالنار ولله در القائل:
إذا كان رأس المال عمرك فاحترس ... عليه من الإنفاق في غير ما وجب
هذا ولما أخذ المشركون عمارا وأباه ياسرا وأمه سمية وعذبوهم ليرجعوا عن الإيمان بالله فأبي ياسر وسمية فقتلوهما وهما أول قتيلين قتلا في الإسلام لمرضاة الله، رحمهما الله رحمه واسعة، ووافقهم عمار على ما شاءوا من كلمات الكفر بلسانه بعد أن شاهد قتل أبويه فأخبر محمد صلّى الله عليه وسلم بذلك فقال كلا إن عمارا ممتلىء إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه، فجاء وهو يبكي، فقال ما وراءك؟ قال شرّ، نلت منك يا رسول الله أي أنه تكلم فيه مثل ما أراد الكفرة منه بسبب تعذيبه بعد قتل أبويه، قال كيف وجدت قلبك؟ قال مطمئنا بالإيمان، فجعل يمسح عينيه وقال إن عادوا لك فعد لهم بما قلت، فنزلت هذه الآيات. وهي عامة في كل من هذا شأنه، لأن نزولها فيمن ذكر لا يقيدها، وإن المكره على الكفر ليس بكافر، وقد استثنى المكره بالآية إذ ظهر منه ما شابه ما يظهر من الكافر طوعا.
قال تعالى «ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا» فرارا بدينهم إلى ديار غير ديارهم