ثالث والاستفهام فيه لإنكار الوقوع أيضا فقال «أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ» وهو معروف عندهم بالأمانة والصدق وحسن الأخلاق ووفور العقل وشرف النسب وعزة الحسب والوفاء بالوعد والعهد والصدق وغيرها من الآداب الحسنة «فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ» ٦٩ أي أيقدرون أن ينكروه مع وضوحه عندهم ومعلوميته بالأخلاق الفاضلة. وفي هذه الآية دليل قاطع على أنهم يعرفون محمد صلّى الله عليه وسلم بأنه على غاية من الكمال ونهاية من الوقار، ولولا ذلك لأنكروا على أبي طالب خطبته التي قرأها يوم عقد نكاحه على خديجة رضي الله عنها بحضور رؤساء قريش، إذ قال فيها: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل وضئضىء معد، وعنصر مضر، وجعلنا خدمة بيته، وسواس حرمه، وجعل لنا بيتا محجوجا وحرما آمنا، وجعلنا الحكام على الناس، ثم ان ابن أخي محمد بن عبد الله لا يوازن يرجل إلا رجح به، فإن كان في المال قلّة فإن المال ظل زائل وأمر حائل، ومحمد من قد عرفتم قرابته، وقال وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل إلخ.
ولم ينكر أحد منهم شيئا من ذلك إلا بعد ادعائه الرسالة، حسدا وبغيا وخوفا على الرياسة التي لهم شيء منها. قال تعالى «أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ» أي ليس الأمر كما يقولون إن ما جاءهم به عبارة عن سحر وكهانة وغيرهما، وإنما «جاءَهُمْ بِالْحَقِّ» الذي لا محيد عنه وهو التوحيد للإله ودين الإسلام ودين إبراهيم عليه السلام الذي تضمنته تلك الآيات الدالة على صدقه وأمانته، وقد اشتهر عندهم بالأمين «وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ» ٧٠ لأن جبلّتهم مطبوعة على الكذب، وطبيعتهم مجبولة على الزيغ، وإنما قال أكثرهم لأن منهم من يعرف أحقية ذلك كله، وإنما لم يعترف به حذرا من تعيير قومه لا كراهة به، وعليه فيكون أقلهم تاركا للإيمان أنفة واستكبارا عنه وخوفا من توبيخ قومه، وأن يقولوا له صبوت أي تركت دين آبائك، وانك احتجت لطعام محمد وغير ذلك مما مر في الآية ١٤ من سورة فصلت المارة، كراهة لحضرته المقدسة تبعا لأهوائهم «وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ» فيما يعتقدون من الشرك وغيره «لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ» وهذه الآية قريبة في المعنى لقوله تعالى (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا) الآية ٢٢ من