إذ لا يكون العدوان «إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ»(١٩٣) منهم المصرين على كفرهم والذين تابوا وآمنوا فلا سبيل لكم عليهم لأنهم صاروا مثلكم. وهذه الآية محكمة أيضا لأنها في حكم آخر أشمل من الأول كما أن الأول أشمل مما قبله، ولهذا قال بعض المفسرين إن الأولى منسوخة بالثانية، والثانية منسوخة بآية (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) والثالثة هذه منسوخة بآية السيف الآتية، وهو قول ضعيف لا يعول عليه، لأن النسخ رفع الحكم، وهذه الآيات الثلاث حكمهن باق فلا معنى للقول بالنسخ، وغاية ما في الأمر أن يقال آية مطلقة وأخرى مقيدة، والقيد يخصص الشيء ولا يرفع حكمه، وإذا راجعت ما قدمناه في المقدمة والآية ١٠٧ المارة علمت أن لا ناسخ في كتاب الله هذا الناسخ لما قبله، ومن البعيد على الحكيم أن يتابع آيات تكون كل منها ناسخة الأخرى. قال تعالى «الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ» لما كانت الجاهلية تحترم الأشهر الحرم فلا تقاتل فيها ولا تنتقم ممن قاتلها إذا وجدته فيها وقدرت على قتله أيضا تأثما، وبقيت هذه العادة مطردة عندهم إلى نزول هذه الآيات الثلاث دون أن يخرمها أحد، وقد أباح الله تعالى لهم قتال المشركين فيها خلافا لما كانوا عليه وآباؤهم من قبل، فلأجل أن لا يتأثموا من ذلك أنزل الله تعالى هذه الآية كالتفسير للآيات قبلها، أي إذا قاتلوكم بالشهر الحرام فلا تتأثموا من قتالهم فيه بل قاتلوهم فيه أيضا، لأن العداء يرد بمثله بأي مكان كان حرمة للنفس والمال. وقال أكثر المفسرين إنها نزلت في عمرة القضاء لأن النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم خرجوا في ذي القعدة سنة ست من الهجرة فصدهم المشركون ووقع الصلح المشهور بالحديبية، ولما عاد في سنة سبع هو وأصحابه لقضاء تلك العمرة في شهر ذي القعدة أيضا أباح الله لهم في هذه الآية مقاتلتهم فيه إذا هم قاتلوهم كما قاتلوهم سنة ست وصدوهم عن البيت على أنه لم تقع مقاتلة بينهم، بل
وقع تلاحي وهو عبارة عن أخذ ورد وتهديد ووعيد في القتال ومنع من دخول مكة وشذوذ في المكالمة مما يؤدي إلى المقاتلة، وعلى فرض مقاتلتهم فقد أخبرهم الله تعالى في الآية الأولى بقوله (فقاتلوا الذين يقاتلونكم» لذلك فإن ما جرينا عليه أولى، ولأن عمرة القضاء هذه لم تكن عند نزول هذه الآية كما علمت من تاريخها.