في أزله ومقدرا في مقدرته بأن يكون هذا المكان وهذا الزمان وإنما كان كذلك أيها المؤمنون «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ» رآها وعبرة عاينها وعفة شاهدها وحجة قامت عليه «وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ» كذلك «وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ» لأقوالكم سرها وجهرها «عَلِيمٌ (٤٢) » بنيّاتكم وبما يقع لكم من النصر وعليهم من القهر. واذكر يا سيد الرسل لقومك «إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا» لتقوى قلوب أصحابك فيجرءوا عليهم «وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ» بسبب ضعف همة قومك، ولجبنوا عن عدوهم وحدثتهم أنفسهم بالتراجع وتشتتت آراؤهم «وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ» فيما بينكم فصار منكم من يحبذ الإقدام ويرغب فيه، ومنكم من يحبب الإحجام ويرغب عن اللقاء، فتتصادم الآراء ويحصل الشقاق وتفكك عرى التوثق بينكم «وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ» وعصم قلوبكم من ذلك بسبب ذلك التقليل وأنعم عليكم بعد وقوع الخلاف المؤدي للهزيمة «إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ٤٤» يعلم ما يحصل فيها من الجرأة والجبن والصبر وا لجزع، ومن يميل إلى الإقدام ومن يجنح إلى الإحجام «وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ» أيها المؤمنون «إِذِ الْتَقَيْتُمْ» معهم يقظة عند التحام وتراص الصفين «فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا» تأكيدا لرؤياك يا صفوة الخلق ليطمئنوا ويتحققوا أن ما تقوله لهم حق واقع لا محالة سواء عن رؤيا منامية أو مشاهدة عينية، وهذه من أكبر النعم المقوية للقلوب الموجبة للإقدام عن رغبة، إذ أراهم الجمع الكثير شرذمة قليلة. قال ابن مسعود قلت لرجل جني تراهم منه، فأسرنا منهم رجلا، وسألناه، فقال نحن ألف «وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ» قبل اللقاء ليجرأوا على مهاجمتكم، ولا يتقاعسوا عنها حتى إذا قدموا عليكم رأوكم كثيرا فيبهتوا ويرعبوا وتنكسر شوكتهم وتختل معنوياتهم، فيغلبوا، وإنما فعل الله تعالى هذا معكم ومعهم «لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا» مقضيا بهلاكهم.
ومن مغزى هذه الآية عدا ما ذكر تعليم العباد بابا من أبواب الحرب، وذلك بأن يجعل القائد غير المدافع قوته العظيمة من وراء، ثم يتقدم لعدوه بقوة يسيرة ليغريه على الإقدام والهجوم طمعا بالغلب، فيجابه هذه القوة اليسيرة بكل ما لديه