القرآن عليك يا أكمل الرسل وتشديد نزل أولا يدل على التكثير، لأن القرآن نزل نجوما فيما يقرب من ثلاث وعشرين سنة، وتخفيف أنزل ثانيا يدل على أن الكتابين نزلا جملة واحدة دفعة واحدة، وكل من هذه الكتب أنزلها الله تعالى «هُدىً لِلنَّاسِ» من الظلمات إلى النور «وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ (٣) » أعاد ذكره ثانيا تعظيما لشأنه وسماه فرقانا لفرقه بين الحق والباطل «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ» المنزلة على رسله «لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤) » ممن كفر به كائنا من كان. واعلم أن نزول هذه الآيات بالوفد المذكور لا يمنع عمومها في غيرهم، بل هي عامة في كل ما ينطبق عليه معناها «إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ»(٥) من كل نام وجماد وماء وهواء «هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦) » وفي هذه الآية رد على النصارى القائلين لو لم يكن عيسى إلها لما أحيا الميت بأن المستحق للألوهية هو الذي (لا يَخْفى عَلَيْهِ) الآية، وان الذي يصوره غيره لا يكون إلها، وقد دلت هذه الآية على قضية محكمة من معجزات القرآن مبهمة لم تخطر على قلب بشر وهي تماثل النطف، إذ تبين أخيرا بعد اختراع المكبرات أن نطف الحيوانات كلها مثل نطف ابن آدم لا يختلف بناؤها الجوهري ولا بعضها عن بعض إلا بالحجم والشكل والكثرة والقلة، وان التصوير لا يحصل إلا في الأرحام، ولولا ذلك لخرج الإنسان في صور حيوانات شتى، فمن أخبر محمدا صلّى الله عليه وسلم هذا الخبر الذي كان غيبا إذ لم تكن جامعة علمية نظامية ولا مدرسة كلية طبية في زمنه ليقال إنه تعلمها أو فهما منها ولذلك جاءت في كتابه، وقد أيدت هذه الآية بالآية ٨ من سورة الانفطار المارة في ج ١ وهي قوله تعالى (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) إذ لو أهملت هذه المهمة لولدت الناس غنما وكلابا وحميرا وشبهها، فورب السماء والأرض إن هذا من الإله القادر العظيم وإنه لحق مثلما أنكم تنطقون، وإنه لقول فصل وما هو بالهزل. ورحم الله الأبوصيري إذ يقول.
آيات حق من الرحمن محدثة ... قديمة صفة الموصوف بالقدم