في قوله (كِتاباً مُتَشابِهاً) الآية ٢٣، وهذا هو وجه الجمع بين هذه الاية التي نحن بصددها والآيتين المذكورتين، ولا منافاة بينهما البتة، راجع الآية ٨٢ من سورة النساء الآتية، وعليه يصح أن نقول القرآن كله محكم على الوجه الذي بيناه في سورة هود، وكله متشابه على النحو الذي ذكرناه في سورة الزمر، ومحكم من وجه متشابهه من آخر على الصورة التي أوضحناها هنا. ثم اعلم أن الآيات المحكمة هي ما تشتمل على الأحكام من حلال وحرام، وأمر ونهي، ووعد ووعيد، وحدود مما قد أطلع الله عليه عباده على معناه، ولم تكرر ألفاظه بمعنى آخر، ولم يحتج إلى بيان، ومنه الآيات المدنيات في سورة الأنعام المكية في ج ٢ التي أولها (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ) إلخ من ١٥١/ ١٥٣ إلى قوله (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ، ونظيرها الآيات المكيات من ٢٢/ ٢٦ ومن ٢٧/ ٣١ ومن ٣٤/ ٣٩ من سورة الإسراء المكية في ج ١ من قوله تعالى (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ) إلى قوله (مَدْحُوراً) ، وفيها الوصايا العشر المذكورة في التوراة والمشار إليها في الاصحاح الخامس من إنجيل منى بفصول متفرقة، والمتشابه ما عدا ذلك مما يحتمل التأويل والتفسير وتحوير المعنى بحسب ما يحتمله اللفظ من أوجه كثيرة. واحتاج للبيان وتكررت ألفاظه كالقصص والأخبار والأمثال من جميع ما يشبه بعضه بعضا، ومنه ما استأثر الله تعالى بعلمه فلا سبيل إلى معرفته كالخبر عن أشراط الساعة ونزول عيسى ويأجوج ومأجوج وقيام الساعة والروح ومحل موت الإنسان ودفنه وكسبه ونزول الغيث وما في الأرحام، راجع الآية الأخيرة من سورة لقمان في ج ٢. ثم اعلم أن اللفظ إما أن يحتمل معنى واحدا أو معاني كثيرة فالأول يسمى نصا كقوله تعالى (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) ، والثاني إما أن تكون دلالته على مدلولين أو مدلولات متساوية أم لا فالأول يسمى المجمل كقوله تعالى (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) فإنه يدل على الحيض والطهر راجع الآيتين ٢٢٢/ ٢٢٨ من سورة البقرة المارة، وقد بينا فيها أن الأرجح هو الحيض لا الطهر لتأييده بالحديث الصحيح المذكور هناك، وقد استدل من قال إنه بمعنى الطهر بقول الأعشى:
ففي كل عام أنت جاثم غزوة ... تشد لأقصاها غريم عرائكا