الآخرين الذين جاهدوا ولم يتوفقوا للشهادة لأنهم سعداء مدّ الله في آجالهم ليكثر ثوابهم، فلهؤلاء ما ذكر الله، أما الذين لم يخرجوا للجهاد لعذر أقعدهم أو أمر من الرسول بالبقاء للمحافظة على المدن ومن فيها من العاجزين والأطفال والنساء والقيام بشئونهم فإن الله تعالى يثيبهم على حسب نياتهم وإخلاصهم. روى البخاري ومسلم عن مسروق قال: سألنا عبد الله بن عمر عن هذه الآية (وَلا تَحْسَبَنَّ) إلخ فقال أما انا قد سألنا عن ذلك (يدلّ على أن هذا الحديث مرفوع) فقال (يعني محمد صلّى الله عليه وسلم) أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربهم اطّلاعة فقال هل تشتهون شيئا؟
قالوا أي شيء نشتهي ونحن نسرح في الجنة حيث شئنا، ففعل ذلك بهم ثلاثا، فلما رأوا أنهم لم يتركوا من أن يسألوا، قالوا يا رب نريد أن ترد علينا أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى (وهو راء) أن ليس لهم حاجة تركوا. هذا إخبار الله ورسوله عن المقتول في سبيل الله بأنه حي، وعليه فلا يجوز الدخول في هذا وأمثاله بالعقل، فإن العقل لمثله عقال يفسد ولا يصلح، بل يجب الدخول على هذا وأمثاله بالإيمان الصرف الذي من ورائه الإيقان الذي من ورائه العيان، فالعقل هذا كالملح المفسد لبعض، المصلح لآخر، تأمل وتروّ وتأنّ، ولا تقل هنا بالتأني تضيع الفرص والله يرشدك للصواب، راجع ما قدمناه في نظير هذه الآية الآية، ١٥١ من سورة البقرة المارة. واعلم أن في هذا الحديث دلالة على وجود الجنة وأنها مخلوقة خلافا لمن قال بخلافه، ودليل أيضا على عدم فناء الروح، وعلى أن المحسن ينعم في الآخرة وفي البرزخ، والمسيء يعذب فيهما، وهذا هو المذهب الحق، وإن ما جاء في هذا الحديث ليس بمستحيل على الله لأنه قادر على أن يصوّر أرواحهم على هيئة الطير. أما القول بحياة الجسد فهو وإن لم يكن بعيدا على من يحيي العظام وهي رميم ويخلق البشر من النطفة وآدم من الطين وحواء من اللحم وعيسى من غير أب، وكون هذا الكون علويه وسفليه بلفظ كن، إلا أنه لم تجر عادة الله جلت قدرته بذلك، وليس فيه مزيد فضل أو عظيم منّة، ولا إليه حاجة، بل فيه ما فيه من إيقاع الشكوك والأوهام،