وإنما الأمر صدر من الله تعالى لعوام الملائكة، فظن هذا الخبيث نفسه منهم فلم يسجد مع علمه أنه داخل فيمن أمر بالسجود ولهذا احتج وقال «أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ» فلا أسجد لمن هو دوني لانك «خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ٧٦» والنار على زعمه أشرف من الطين فيكون على ظنه أنه أفضل منه والفاضل لا يتواضع المفضول عادة ولم يعلم الخبيث خطأ قياسه الذي سنبينه في الآية ١١ من الأعراف الآتية لأن النار مصيرها الرماد ولا ينتفع به والطين أصل كل نام من الحيوان والأشجار، ولا شك أن من الأشجار ما هو مثمر ومن الحيوان الإنسان، وكل منها خير من الرماد وإذا كان للنار خاصة الإحراق والضياء فللطين خواص كثيرة فلو فرض أن رجلا نسيبا مجردا من كل فضيلة وآخر غير نسيب جامع للفضائل كلها فهل يفضل ذلك عليه لمجرد نسبه كلا، وكان على الخبيث أن يمتثل لمجرد الأمر من غير أن ينطرق للسبب وللمسجود له لما هو عليه من معرفة ربه على أن شرف الأصل لا يقتضي شرف الفرع قال ابن الوردي:
إنما الورد من الشوك وما ... ينبت النرجس إلا من بصل
قد يسود المرء من غير أب ... وبحسن السبك قد ينفى الدغل
لكنه عليه اللعنة لم يكن هذا قصده ومغزاه وإنما أراد التكبر عليه لأنه يقول في نفسه قبل أن يصرح بما انتحله من السبب والعلة أنه لو فرض أنه خلق من النار ما سجدت له لأنه مثلي فكيف وقد خلق من الطين ويريد التفوق علي فإني ان سجدت له صرت دونه ولا أرضى لنفسي الدون. هذا وجاء لفظ أستكبرت بهمزة الاستفهام وأصلها بهمزة الوصل ولكن لما دخلت همزة الاستفهام حذفتها ويجوز بدون الاستفهام لدلالة (أم) التي أتت بعدها عليها «قال» تعالى تنفيذا لما هو في سابق علمه الأزلي أن يكون «فَاخْرُجْ مِنْها» أي الجنة، وإنما رمز إليها بالضمير ولم يسبق لها ذكر لشهرة كونه من سكانها، والمعلوم دائما يرمز إليه بالضمير كما بيناه في أول سورة القدر المارة وزاد في إخسائه بقوله:«فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ٧٧» طريد منها «وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ ٧٨» الجزاء والحساب