أم من بخل، فقال ابن عباس الحمد لله ما بنا من حاجة ولا بخل، إنما قدم النبي صلّى الله عليه وسلم على راحلته وخلفه أسامة فاستسقى بإناء من نبيذ فشرب وسقى فضله أسامة، فقال أحسنتم إذا عملتم كذا، فاصنعوا، فلا نريد تغيير ما أمر به رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولما أمر الله المؤمنين بالتبرّي من المشركين قالوا كيف يمكن أن يقاطع الرجل أباه وأخاه وابنه فنقطع أرحامنا ونضيّع أموالنا ونخرّب دورنا فأنزل الله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ» لأموركم وتجعلونهم بطانة لمهماتكم ومكتما لأسراركم «إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ» فإنهم لا يؤتمنون على شيء من ذلك أبدا «وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ» بعد هذا النهي «فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ»(٢٣) أنفسهم بمخالفتهم أمر الله والمقام مع أعدائه وموالاتهم دونه، فيا محمد «قُلْ» لهؤلاء الميالين إلى الكفرة «إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها» بسبب مباعدتكم عن أقربائكم وتعلقاتكم من الكفار «وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها» بينهم للتقرب منهم «أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ» وترون أن رعاية هذه المصالح الفانية أولى من طاعة الله ورسوله والمجاهدة في سبيله المؤدية إلى الدّار الباقية والجنات العالية «فَتَرَبَّصُوا» انتظروا وهي كلمة تهديد ووعيد لمن يؤثر بحقه أولئك أو شيء منهم على محبة الله ورسوله فليرقب مغبة ذلك وخاصة عافيته «حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ» القاضي باستئصالكم لخروجكم عن طاعته «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ»(٢٤) الخارجين عن طاعته وهذا تهديد بالغ ما فوقه تهديد، لأن الله تعالى قال (أحب) والحب لا يكون إلّا عن زيادة شوق في الشّيء، ولهذا جعل عقابهم شديدا. قال يحيى ابن معاذ لأبي يزيد البسطامي هل سكرت مما شربت من حبه؟ فأجابه بقوله:
شربت الحب كأسا بعد كأس ... فما نفسد الشّراب ولا رويت
هذا أبو يزيد وانظر لقول ابن الفارض:
شربنا على ذكر الحبيب مدامة ... سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم