والرّقة أملا بدخولهم في الإسلام عن رغبة وشوق واختيار لا عن كراهية وبغض واضطرار، لأنهم أهل كتاب فلربما يعيدون نظرهم إلى كتبهم فيفكرون فيها ويدققون ما ترمي إليه من صدق نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم وصحة دينه الذي تشير إليه كتبهم، وإنما أمهلوا فلم يقاتلهم الرّسول ولم يأمر بقتالهم وقد قبل منهم الجزية لهذه الغاية وحرمة لآبائهم الّذين انقرضوا على شريعة التوراة والإنجيل الصّحيحين، لذلك علينا معشر المؤمنين أن نقوم بواجبهم ونخترم حقوقهم ونريهم مكارم الأخلاق ومحاسن هذا الدين الحنيف ونعاملهم كمعاملة بعضنا لبعض بل أحسن، وقد أمرنا الله بالآداب وحسن الخلق الذي مدح رسوله عليه في كتابه ليركن إليه النّاس عن طيب نفس وليتعشّق النّاس دينه الحق وقوله الصّدق الذي أمر الله النّاس باتباعه وأمر الأنبياء وأتباعهم باتباعه، ولهذا أمر الله تعالى رسوله بعدم قتالهم إذا أرادوا الجزية وتركهم لعلهم يتذكرون في هذا. ولما أمر الله تعالى بقتال طوائف من اليهود والنّصارى الموصوفين بالآية المتقدمة ليؤمنوا أو بضرب عليهم الجزية ذكر وجه كفرهم بقوله عز قوله «وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ» وحاشا الله أن يكون له ولد، وإنما قالوا ما قالوه افتراء من تلقاء أنفسهم كما قالت طائفة من العرب بهتا الملائكة بنات الله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، فكل من له لبّ سليم أو عقل كامل لا يقول هذا سواء أكان من النّصارى أو اليهود أو غيرهم، وإنما تقول الجهلة الّذين لا فطنة لهم بسبب ما أتاهم الله من المعجزات التي لا يتصور صدورها من البشر، ولم يعلموا أن الله يظهر على يد من يشاء من عباده الخوارق، أما ما جاء في الإنجيل بلفظ الأب فلا يراد منه معنى الأبوة التي مصدرها التوالد، بل المراد منه المربّي، فهو جل جلاله بهذا المعنى أب للخلق كافة، قال الفيلسوف الشّهير (رينان) إن عيسى عليه السّلام عند ما قال أبي عن الله لم يرد أن الله أبوه حقا، وإنما عنى بذلك أنه كالأب في الحنان والعطف. بل هو أشد حنانا وعطفا على خلقه من آبائهم. فانظر أيها المدرك قول هذا، واعلم أن القائلين بأن عيسى ابن الله من أهل الكتاب وأراد النّبوة نفسها بمعنى الوالد فهو في عداد المشركين، إذ لا فرق بين من يعبد الوثن الجامد وبين من