عبرة به، تأمل، وراجع بحث النّاسخ والمنسوخ في المقدمة تقف على ذلك.
قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» يأمر من فيهما بما يشاء وينهى عما يشاء لا يقيد شيء دون آخر في كلّ ما فيهما وما بينهما وما فوقهما وتحتهما «يُحْيِي وَيُمِيتُ» من فيهما ويغني ويفقر ويعظم ويحقر، لا راد لما يريد، ولا معطى لما منع «وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ» أيها النّاس قويكم وضعيفكم «مِنْ وَلِيٍّ» يلي أموركم غيره «وَلا نَصِيرٍ»(١١٦) يمنعكم منه أو يحول دون إرادة ما قدر إيقاعه فيكم لأن مقدراته نافذة عليكم بآجالها لا تقدم ولا تؤخر ثم أنزل جل إنزاله ما يتعلق بالمتخلفين الصّادقين والثلاثة الآتي ذكرهم، فقال جل قوله «لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ» وقت غزوة تبوك المار ذكرها لما فيها من بعد الشّقة وقلة السّلاح والرّكوبة فضلا عن أنها كانت زمن الحرّ والجدب «مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ» على الثبات مع حضرة الرّسول لتلك الأسباب واشتداد الضنك حتى كان العشرة منهم يتعاقبون على الرّاحلة الواحدة في الرّكب وفي الزاد حتى كان الرّجلان يقتسمان التمرة وفي الماء حتى شربوا عصير كروش الإبل وفي الزمن حتى كان الجماعة يظللون أنفسهم بعباءة واحدة من هجير الشّمس، وفي المكان من البعد حتي شارف بعضهم على الهلاك من التعب قيل الوصول المرحلة وفي كلّ شيء في هذه الغزوة عسر ومشقة وقلة لم يلاقوها في جميع غزواتهم، ولهذا سميت غزوة العسرة وامتحن فيها من امتحن فنجى من نجى بحسن نيته وهلك من هلك بسوئها «ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ» وتجاوز عن زلتهم وخطئهم، وعفا عمّا همّ به بعضهم من ترك الرّسول والتخلي عنه وما اعتراهم من الضّجر، وإنما كرر فعل التوبة لزيادة التأكيد والتطمين لهم بالصفح عما وقع منهم كله من قول وفعل ونية وهم وعزم «إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ»(١١٧) لأنهم من خلص عباده فرأف بهم ورحمهم ودفع عنهم ما لا يطيقون بكرمه وحنانه، ودفع عنهم ما عجزوا عنه بمنه ولطفه وتاب عليهم برده وعطفه. والفرق بين الرّأفة والرّحمة أن الرّجل قد يرحم من يكرهه ولا يرأف به، فالرحمة عامة، والرّأفة خاصة بمن يحب.