للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قلت: إذا كان يمكن وصولهما إلى قاض مجتهد لم يجز للمقلد أن يقضي بينهما بل يرشدهما إلى القاضي المجتهد أو يرفع القضية إليه ليحكم فيها بما أنزل الله أو بما أراه الله، فإن كان الوصول إلى القاضي المجتهد متعذراً أو متعسراً فلا بأس بأن يتولى ذلك القاضي المقلد فصل خصوماتهما لكن يجب عليه أن لا يدعي علم ما ليس من شأنه، فلا يقول صح أو لم يصح شرعاً بل يقول قال إمامه كذا ويعرف الخصمين أنه لم يحكم بينهما إلا بما قاله الإمام الفلاني.

في الحقيقة هو محكّم لا حاكم، وقد ثبت التحكيم في هذه الشريعة المطهرة كما جاء ذلك في القرآن الكريم في شأن الزوجين، وأنه يوكل الأمر إلى حكم من أهل الزوج وحكم من أهل المرأة وكما في قوله تعالى: (يحكم به ذوا عدل منكم) وكما وقع في زمن النبوة والصحابة في غير قضية ومن لم يجد ماء تيمم بالتراب، والعور خير من العمى.

ولا يغتر العاقل بما يزخرفه المقلدون ويموهون به على العامة من تعظيم شأن من يقلدونه ونشر فضائله ومناقبه، والموازنة بينه وبين من يبلغ رتبة الاجتهاد في عصر هؤلاء المقلدين، فإن هذا خروج عن محل النزاع ومغالطة قبيحة، وما أسرع نفاقها (١) عند العامة لأن أفهامهم قاصرة عن إدراك الحقائق والحق عندهم يعرف بالرجال، وللأموات في صدورهم جلالة وفخامة، وطباع المقلدين قريبة من طبائعهم، فهم إلى قبول أقوالهم أقرب منهم إلى قبول أقوال العلماء المجتهدين، لأن المجتهدين قد باينوا العامة وارتفعوا إلى رتبة تضيق أذهان العامة عن تصورها.

فإذا قال المقلد مثلاً: أنا أحكم بمذهب الشافعي وهو أعلم من هذا المجتهد المعاصر لي وأعرف بالحق منه، كان العامة إلى تصديق هذه المقالة


(١) رواجها.

<<  <  ج: ص:  >  >>