عملوا على جهل هذا المعارف التي دخلوا فيها بادىء بدء؟ وسلموا من تبعاتها، وأراحوا أنفسهم من تعبها، وقالوا كما قال القائل:
أرى الأمر يفضي إلى آخر ... فصيّر آخره أولاً
وربحوا الخلوص من هذا التمني، والسلامة من هذه التهنئة للعامة؛ فإن العاقل لا يتمنى رتبة مثل رتبته أو دونها، ولا يهنىء لمن هو مثله أو دونه، بل لا يكون ذلك إلا لمن رتبته، أرفع من رتبته، ومكانه أعلى من مكانه، فيالله العجب، من علم يكون الجهل البسيط أعلى رتبة منه، وأفضل مقداراً بالنسبة إليه.
وهل سمع السامعون بمثل هذه الغريبة، ونقل الناقلون ما يماثلها أو يشابهها، وإذا كان هذا حال هذه الطائفة التي قد عرفناك أنها أخف الطوائف تكلفاً، وأقلها تبعة فما ظنك بما عداها من الطوائف، التي قد ظهر فساد مقاصدها، وتبين بطلان مواردها ومصادرها، كالطوائف التي أرادت بالمظاهر، التي تظاهرت به، كيْد الإسلام وأهله، والسعي في التشكيك فيه بإيراد الشبه، وتقرير الأمور المفضية إلى القدح في الدين، وتنفير أهله عنه.
وعند هذا تعلم أن:
خير الأمور والسالفات على الهدى .. وشر الأمور المحدثات البدائع
وأن الحق الذي لا شك فيه، ولا شبهة، هو ما كان عليه خير القرون، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وقد كانوا رحمهم الله تعالى وأرشدنا إلى الاقتداء بهم، والاهتداء بهديهم، يمرون آيات الصفات على ظاهرها، ولا يتكلفون علم ما لا يعلمون، ولا يحرفون ولا يؤولون، وهذا المعلوم من أقوالهم وأفعالهم، والمتقرر من مذهبهم، لا يشك فيه شاك ولا ينكره منكر ولا يجادل فيه مجادل. وإن نزغ من بينهم نازغ أو نجم في عصرهم ناجم أوضحوا للناس أمره وبينوا لهم أنه على ضلالة، وصرحوا بذلك في المجامع والمحافل: وحذروا الناس من بدعته، كما كان منهم لما ظهر معبد الجهني