وهؤلاء هم طائفتان الطائفة الأولى، هي الطائفة التي غلت في التنزيه فوصلت إلى حد يقشعر عنده الجلد ويضطرب له القلب، من تعطيل الصفات الثابتة، بالكتاب والسنة، ثبوتاً أوضح من شمس النهار وأظهر من فلق الصباح، وظنوا هذا -من صنيعهم- موافقاً للحق. مطابقاً لما يريده الله سبحانه، فضلوا الطريق المستقيمة، وأضلوا من رام سلوكها. والطائفة الآخرى: هي الطائفة التي غلت في إثبات القدرة، غلواً بلغ إلى حد أنه لا تأثير لغيرها، ولا اعتبار بما سواها، وأفضى ذلك إلى الجبر المحض، والقسر الخالص، فلم يبق لبعثة الرسل، وإنزال الكتب، كثير فائدة، ولا يعود ذلك على عباده بعائدة، وجاؤا بتأويلات للآيات البينات، ومحاولات لحجج الله الواضحات، فكانوا كالطائفة الأولى في الضلال والإضلال، مع أن كلا المقصدين صحيح، ووجه كل منهما صبيح، لولا ما شأنه من الغلو القبيح.
وطائفة توسطت، ورامت الجمع بين الضب والنون، وظنت أنها قد وقفت بمكان بين الإفراط والتفريط، ثم أخذت كل طائفة من هذه الطوائف الثلاث تجادل، وتناضل، وتحقق، وتدقق في زعمها، وتجول عمل الأخرى وتصول، بما ظفرت به، مما يوافق ما ذهبت إليه، وكل حزب بما لديهم فرحون، وعند الله تلتقي الخصوم.
ومع هذا فهم متفقون فيما بينهم على أن طريق السلف أسلم، ولكن زعموا أن طريق الخلف أعلم، فكان غاية ما ظفروا به، من هذه الأعلمية -بطريق الخلف- أن تمنى محققوهم وأذكياؤهم في آخر أمرهم دين العجائز وقالوا: هنيئاً للعامة. فتدبر هذه الأعلمية التي كان حاصلها أن يهنأ من ظفر لأهل الجهل البسيط، ويتمنى أنه في عدادهم وممن تدين بدينهم ويمشي على طريقتهم، فإن هذا ينادي بأعلى صوت ويدل بأوضح دلالة على أن هذه الأعلمية التي طلبوها؛ الجهل خير منها بكثير، فما ظنك بعلم يقر صاحبه على نفسه أن الجهل خير منه ويتمنى عند البلوغ إلى غايته والوصول إلى نهايته؛ أن يكون جاهلاً به عاطلاً عنه - ففي هذا عبرة للمعتبرين وآية بينة للناظرين، فهلاَّ