للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عطاء فتى تمكن في المعالي ... فأعرض في المكارم واستطالا

فكأنه أراد أعرضتم واستطلتم في الكفران، إلا أنه استغنى بذكر العرض عن الطول للزومه له، والتفسير الأول أولى بالمقام وأنسب للكلام «وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً» ٦٧ لنعم الله تعالى مبالعا في جحودها، وهذا التعليل للإعراض وبيان لحكم الجنس، ويعلم منه حكم أولئك المخاطبين وفيه لطافة إذ أعرض الله عنهم، ومن اللطائف أن بعض الناس قال لبعض الأئمة اثبت لي وجود الله تعالى ولا تذكر الجوهر ولا العرض، فقال له هل ركبت في البحر؟ قال نعم، قال هل عصفت الريح وأنت فيه؟ قال نعم، قال فهل أشرفت بك السفينة على الغرق؟

قال نعم، قال فهل يئست من نفع من في السفينة من المخلوقين ونحوهم لك وإنجاءهم إياك مما أنت فيه؟ قال نعم، قال فهل بقي قلبك معلق بشيء آخر غيرهم ترجو منه الخلاص؟ قال نعم، قال ذلك هو الله عز وجل، فاستحسن ذلك منه وقنع، لأن الإنسان مهما عظم وقوعه في المهالك ولم يجد من ينفعه يبقى في قلبه أمل النجاة، وإذ لم يكن لهذا الأمل من يعلم تنفيذه، فيكون المراد به هو الله لا غير، قال تعالى «أَفَأَمِنْتُمْ» أيها المعرضون عمن نجاكم من الغرق في البحر «أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ» الذي هو مأمنكم وأنتم عليه كما خسف بقارون وذهب به في أعماق الأرض، فتغور بكم وتبتلعكم، لأن البر والبحر مسخران لله تعالى، فلا فرق عليه إن أغرقكم في البحر ويرسيكم في قعره أو خسف بكم الأرض، فيغيبكم في ثراها. فعلى العاقل أن يجعل مخافة الله دائما نصب عينيه وفي سويداء قلبه في أي مكان كان «أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً» حجارة صغيرة يرجمكم بها من السماء فيهلككم كما رجم قوم لوط وأبرهة وقومه في دياركم هذه، وقد شاهد آباؤكم حادثته وكثير منكم أيضا حضرها، راجع الآية ٨٢ من سورة القصص والآية ٨٤ من الأعراف وآخر سورة الفيل المارّات. قال الفراء (الحاصب) هو الريح التي ترمي بالحصباء. وقال الزجاج هو التراب الذي فيه الحصباء. وقيل ما تناثر من رقاق الثلج والبرد ومنه قول الفرزدق:

مستقبلين شمال الشام تضربهم ... بحاصب كنديف القطن منثور

<<  <  ج: ص:  >  >>