والحكمة هي التوراة وقد أوتيناها، فقال صلّى الله عليه وسلم هي من علم الله قليل، وقد آتاكم الله ما إن عملتم به انتفعتم. فأنزل الله (وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) الآيتين من سورة لقمان أيضا. ولهذه الحكمة أخّرت هذه الآيات عن سورتها بالنزول لأن السورة نزلت بمكة وهذه الآيات بالمدينة. واعلم أن معنى كون الروح من أمر الله أنها من الإبداعيات الكائنة بالأمر التكويني من غير تحصيل مادة وتولد من أصل كالجسد الإنساني، والمراد بالأمر واحد الأوامر وهو كن، والسؤال كما ذكرنا هو عن الحقيقة، والجواب إجمالي مآله أن الروح من عالم الأمر، مبدعة من غير مادة، لا من عالم الخلق المبتدع في المادة، وهو أي هذا الجواب من الأسلوب الحكيم كجواب سيدنا موسى عليه السلام إلى فرعون حينما قال له:
(وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) فأجابه (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) الآية ٢٥ من سورة الشعراء المارة مشيرا بجوابه هذا إلى أن كنه حقيقة المسئول عنه ما لا يحيط به دائرة إدراك البشر، وإنما الذي يعلمه البشر عن الإله هو هذا القدر الإجمالي المتدرج تحت ما استثنى مما استأثر به نفسه المقدسة. وقال ردّا على ما خطر في قلب السائل من اطلاع على معلوماته الضئيلة بقوله (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا)(وتفسيره ما تقدم) تستفيدونه من طرق، فإن تعقل المعارف النظرية إنما هو في الأكثر من إحساس الجزئيات، ولذلك قيل من فقد حسا فقد علما. هذا، ولا شك أن الروح مجردة عن علائق الأجسام، وأنه جوهر ليس من جنس الأجسام بل هو جوهر قدسي مجرد، يدل عليه قوله تعالى (مِنْ أَمْرِ رَبِّي) وقوله تعالى (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) الآية ٢٩ من سورة الحجر في ج ٢، وقوله تعالى (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) الآية ١٧٠ من سورة النساء في ج ٣، وان هذه الإضافات تنبه على شرف الجوهر الأسنى وكونه عريّا عن الملابس الحسية. ومن هذا القبيل قوله صلّى الله عليه وسلم (أنا النذير العريان) ففيه إشارة إلى تجرّد الروح عن علائق الأجرام، وكذلك قوله صلّى الله عليه وسلم (خلق الله آدم على صورة الرحمن) - وفي رواية على صورته- وقوله عليه السلام (أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني) ففيها إيذان بشرف الروح وقربه من ربه بالذات والصفات، قربا لا يعرف كيفيته، مجردا عن علائق الأجرام وعوائق