لم يدركوهم فنفى موسى عنهم الإدراك مع إثبات الرؤية بقوله كلا، ومما لا شك فيه أن رؤية الله في الآخرة تكون من غير إدراك لاستحالة الإحاطة به لأنه منزه عن الحد والجهة والأبعاد الثلاثة والجهات الست، قال في بدء الأمالي:
يراه المؤمنون بغير كيف ... وإدراك وضرب من مثال
فينسون النعيم إذا رأوه ... فيا خسران أهل الاعتزال
أي يا قوم احذروا خسران المعتزلة من رؤية الله لأنهم يقولون بعدمها فجزاهم الله حرمانها جزاء وفاقا، أما إذا قالوا إنه لا يرى في الدنيا فهذا مما لا جدال فيه وما وقع لسيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم فهو خاص به وما عموم إلا وخص منه البعض، هذا وقد أوضحنا كيفية رؤيته تعالى وثبوتها بالصحائف المشار إليها أعلاه فراجعها ترشد لما تريده وزيادة، قال تعالى يا أيها الناس «قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ» جمع بصيرة وهو نور القلب وأبصار جمع بصر وهو نور العين، وقد سمى الله تعالى آيات القرآن بصائر لأنها يهتدى بها إلى الرشد والسداد وهي بصائر القلوب الحية «مِنْ رَبِّكُمْ» لتبصروا بها حقائق الأشياء وتفقهوا مقاصدها فتعلموا المراد منها «فَمَنْ أَبْصَرَ» معانيها وآمن بها وصدق من جاء بها «فَلِنَفْسِهِ» أبصر وإياها نفع ولها عمل وتحذّر من كل سوء «وَمَنْ عَمِيَ» عنها وضل عن هداها وجهل أو تجاهل معناها ولم يستدل بها إلى الطريق المستقيم المؤدي إلى جنات النعيم «فَعَلَيْها» جنى وعمي وإياها ضر خسر وكان وبال عماه عليه، والله غني عنه «وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ١٠٤» إنما علي البلاغ والإنذار والله هو الرقيب عليكم، وشاهد لأعمالكم وهو الذي يجازيكم عليها فلا يخفى عليه شيء منها، وعلى هذا فالآية محكمة، ومن قال إنها منسوخة قال في تفسيرها أنا لا آخذكم بالإيمان أخذ الحفيظ الوكيل، وهو ليس بشيء، وظاهر الآية لا يحتمل هذا المعنى، وبعد أن أتم سبحانه وتعالى ما يتعلق في الإلهيّات شرح بما يدل على إثبات النبوة التي هي الأصل الثاني من الأصول الثلاثة، فابتدأ بحكاية شبه المنكرين لها فقال «وَكَذلِكَ» مثل هذا التصريف البديع «نُصَرِّفُ» نكرر ونبين «الْآياتِ» الدالات على توحيدنا ونبوة أنبيائنا «وَلِيَقُولُوا» لك يا سيد الرسل «دَرَسْتَ» قرأت الكتب القديمة