بإنالة وعده للصادقين بقوله «إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ»(١٤) لأوليائه في الكرامة كما يفعل ما يشاء لأهل معصيته من الهوان، هذا ولما دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم قوما من أسد وغطفان إلى الإسلام وكان بينهم وبين يهود المدينة حلف، وقالوا تخاف ان أسلمنا أن لا تنصر ولا يظهر أمرك على اليهود، فتنقطع المحالفة بيننا وبينهم، فيقطعون عنا الميرة ولا يؤوننا ان نزلنا عليهم، أنزل الله تعالى انزاله «مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ» أيضا ليس في الدّنيا فقط كما ظن هؤلاء «فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ» حبل «إِلَى السَّماءِ» أي يعلق حبلا لجهة العلو كالسقف وغيره، لأن كلّ ما علاك فأظلك هو سماء، فيجعله في عنقه ويخنق نفسه خير له من هذا الظّن الفاسد في ربه. وهنا عدل عن الحقيقة، إذ صرف لفظ السّماء عن حقيقته الظّاهرة إلى المجاز وهو السّقف الذي يطلق عليه لفظ السّماء مجازا لاستحالة تعلق الحبل بالسماء الحقيقة لئلا يتعطل اللّفظ تأمل «ثُمَّ لْيَقْطَعْ» ذلك
الحبل أي يخنق نفسه فيه وسمى الإخناق قطعا، لأن المختنق يقطع نفسه يحبس مجاريه وبعد ذلك «فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ» ذلك بنفسه «ما يَغِيظُ»(١٥) أي الذي يغيظه وهو نصر الله له كلا لا يرد من خنقه شيئا بل يبقى كيده في نحره، وفيه قيل:
ان لم تكوني بهذا الحال راضية ... فدونك اليوم هذا الحبل فانشنقي
وهذه الآية عامة في معناها لكل من ظن هذا الظّن السّيء بربه، وتفيد أن الله تعالى ناصر نبيه في الدّنيا والآخرة على رغم حسّاده وأعاديه، وناصر أنصاره وأتباعه إلى يوم القيامة إذا صدقوا وداوموا على سنته «وَكَذلِكَ» كما أنزلنا على من قبلك من الرّسل كتبا وصحفا «أَنْزَلْناهُ» أي هذا الكتاب الحاوي على معنى كلّ ما نزل قبل عليهم. عليك يا سيد الرّسل وجعلناه «آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي» به إلى دينه «مَنْ يُرِيدُ»(١٦) من عباده الّذين سبقت لهم السّعادة في علمه الأزلي «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ» لم تذكر هذه الكلمة في القرآن كله إلّا هنا «وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا»