للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عشر من الهجرة، والنّبي واقف بعرفة، فقرأها في خطبته وقال أيها النّاس إن سورة المائدة من آخر القرآن نزولا فأحلّوا حلالها وحرموا حرامها. وإنما قال تعالى يوم نزلت هذه الآية (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) مع أنه كان ولم يزل راضيا عن دين الإسلام قبل وبعد لبلوغه إذ ذاك رتبة الكمال، إذ بلغ أقصى درجاته من أصول وفروع، وليحثنا على التمسك به وزيادة المحافظة عليه، روى البغوي بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول قال جبريل قال الله عز وجل هذا دين ارتضيته لنفسي ولن يصلحه إلّا السّخاء وحسن الخلق فأكرموه بهما ما صحبتموه. وروى أنها لما نزلت هذه الآية بكى عمر رضي الله عنه، ولهذا حفظ زمانها ومكانها إذ قال له صلّى الله عليه وسلم ما يبكيك؟ قال إنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذا أكمل فإنه لم يكمل شيء إلّا نقص، قال صدقت.

وفي رواية أن الذي بكى هو سيدنا أبو بكر رضي الله عنه فعلى فرض صحتها لا ينافي بكاء عمر أيضا إذ يجوز أن كلاهما وقع منه ذلك، ولكن هذه الحادثة تؤيد ما جرينا عليه من أن الذي بكى هو عمر لأن السّؤال وقع من اليهودي له لا لأبي بكر.

وقد أخذ من هذه الآية نعي رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأنه هو صاحب الدّين ولم يعش بعدها إلا واحدا وثمانين يوما إذ كانت وفاته يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأوّل سنة إحدى عشرة، ولم ينزل بعدها حلال ولا حرام ولا حدود ولا أحكام ولا فرض ولا سنه عدا قوله تعالى (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) الآية ٢٨٢ من البقرة إذ تأخر نزولها عن سورتها، وقد أوضحنا ما يتعلق في هذا البحث عند تفسيرها فراجعه، وذكرنا آنفا أن هذه الآية لا تعدّ مكية وإن كان نزولها بمكة لأن كلّ ما نزل بعد الهجرة يسمى مدنيا. هذا وإنما قال صلّى الله عليه وسلم أحلوا حلالها وحرموا حرامها وكلّ سور القرآن يجب أن نحل حلالها ونحرم حرامها لزيادة الاعتناء على حد قوله تعالى (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) الآية ٣٦ من سورة التوبة، على أنه لا يجوز الظّلم في شيء ما في جميع الأشهر، وإنما خص الحرم بعدم الظّلم لزيادة الاعتناء ولاشتمال هذه السّورة على ثمانية عشر حكما لا توجد في غيرها، أولها للمنخنقة وآخرها (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) الآية ١٠٦ الآتية قال

<<  <  ج: ص:  >  >>