بالقتال فاضطر لمقاتلتهم لقصد إصلاح المجتمع الإنساني وحفظا لكيانه من التفرق الذي نهى الله عنه، وليحملهم على كلمة الإسلام وتوحيد كلمتهم وعبادتهم لله تعالى ورفض الأوثان كافة، وقد كان صلّى الله عليه وسلم باذلا جهده مفرغا وسعه منذ بعثته إلى نزول هذه السورة في دعوتهم ونصحهم وإرشادهم إلى الدّين الحق وإخلاصهم فيه باللين والعطف مع تحمل الأذى والجفاء منهم ورميهم له بما لا يليق بجنابه وبالحضرة الإلهية ورغم ذلك كله وما قام به من الطّرق الأخرى الحكيمة وزيادة خفض الجانب لهم مع تعديهم عليه فعلا، فقد شرع المنافقون ينشرون الأراجيف بين النّاس ويثبطونهم عن ملازمة الرّسول ليقلوا من عزمهم ويثلوا جمعهم ويفرقوا كلمتهم وينقصوا حزمهم ويفلوا عزمهم ويمنعوهم من متابعة الرّسول صلّى الله عليه وسلم، وطلق المشركون ينقضون عهودهم مع رسول الله دون سبب وصاروا يناوءون حضرته لما رأوا أفعال المنافقين وصبره عليهم وردهم بالحسنى لما يسمعه منهم ويقابل جرأتهم بالرقة وأنفتهم باللطف وعنادهم بالمسايرة وعتوهم بالمداراة، لأنه صلى
الله عليه وسلم لا يتحرك بحركة إلّا بأمر الله تعالى الذي يترقبه بفارغ الصّبر، ويريد أن يحين الأجل المقدر لأمره بقتالهم، ولكنه مفوض أمره وأمورهم إليه، وجعل علمه تعالى بحاله كافيا عن سؤاله أسوة بجده خليل الله إبراهيم عليه الصّلاة والسّلام، وهو يعلم بتعليم الله إياه أن لا حركة ولا سكون إلا بتقديره وقضائه، ولكل أجل كتاب، ولما حان ذلك الوقت المرتقب وبرز من عالم الغيب إلى عالم الشّهادة ومن القوة إلى الفعل أمر رسوله صلّى الله عليه وسلم في هذه السّورة ينقض جميع العهود التي عقدها معهم لئلا ينسب إلى الغدر ونكث العهد وفك الميثاق على حين غفلة، ونفي اسم الإغرار والتغرير عنه وعن أصحابه، وقطع المعذرة في إيمان من يريد الإيمان أنذرهم إنذارا قاطعا لكل حجة إنذارا ما بعده إنذار وحجة ما بعدها حجة، ومن أنذر فقد أعذر. وقد أمهلهم الله تعالى مدة كافية ليختاروا الطّريق الذي يرضونه لأنفسهم لئلا يقولوا أعجلنا وضيق علينا الأجل، فقال جل قوله «فَسِيحُوا» أيها المشركون والمنافقون «فِي الْأَرْضِ» آمنين مطمئنين على أنفسكم وأموالكم وأعراضكم وبلادكم وذراريكم وإمائكم لا يعارضكم معارض ولا ينازعكم منازع مدة «أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ» لا مدة لكم بعدها وهي كافية لأن تتحروا وتتذاكروا وتتشاوروا وتلموا شعئكم وتجمعوا شملكم وتتعاهدوا وتتواثقوا