الجهاد ينقسم إلى قسمين: قسم لقتال العدو، وقسم لتعلم العلم، لأنه من الجهاد أيضا. واعلم أن وجوب السّفر لطلب العلم يتعين إذا لم يكن في البلد عالم يمكنه التعلم منه، وإلّا فلا يكون واجبا بل مباحا، وإنما كان واجبا زمن الرّسول صلّى الله عليه وسلم لأن الشّريعة لم تستقر بعد لنزولها تدريجا، أما الآن وقد استقرت الشّريعة وكان يوجد في بلده من يكفي لتلقين العلم فلا وجوب بالسفر لمكان آخر، هذا على صرف الآية في سبيل العلم، والثاني يكون في سبيل صرفها للجهاد فقط، وذلك إذا أمر الرّسول به وأرسل السّرايا مع من يؤمره عليها فليس لهم أن ينفروا جميعا ويتركوا رسول الله وحده، بل تذهب طائفة منهم التي يأمر بها حضرة الرّسول إلى الجهاد، وتبقى طائفة للحراسة، وحفظ ما ينزل على حضرة الرسول من القرآن وما يأمر به من الأحكام والآداب الكائنة بغياب الطّائفة الغازية لتعلمه لها عند إيابها. وإنما صح تأويل هذه الآية على الوجهين المذكورين لإمكان جعل صدر هذه الآية من بقية أحكام الجهاد وارتباطها بما قبلها، وإمكان جعلها مبتدأة وتخصيصها بطلب العلم وهو الأوجة الذي جرينا عليه، والقولان لابن عباس رضي الله عنهما، ولهذا اختلف في سبب نزولها، فقال عكرمة لما أنزل الله تعالى بالمتخلفين ما أنزل، قال المنافقون هلك المتخلفون أجمع فنزلت هذه الآية تطمينا لهم. وقال مجاهد غيره، والأنسب ما روي عن ابن عباس من أن الله تعالى لما بالغ في فضح عيوب المنافقين قال المؤمنون والله لا نتخلف في غزوة ولا سرية، وتهبأوا كلهم للنفور، وتركوا الرّسول وحده، فنزلت ويكون المعنى عدم جواز نفور المؤمنين كلهم للجهاد، بل تبقى طائفة لخدمة الرّسول وحفظ الوحي والأحكام والآداب التي يأمر بها لنعلمها للغازين عند حضورهم، لأن القصد من النّفقة دعوة الخلق إلى الحق وإرشادهم إلى الدّين القويم والصّراط المستقيم وإنقاذهم من هوة الجهل والضّلال، فمن تفقه لهذا الغرض كان ناجيا عند الله سائرا على المنهج النّبوي، ومن عدل عنه فطلب به الدّنيا كان داخلا في قوله تعالى (بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) الآية ١٠٦ من سورة الكهف ج ٢. روى البخاري ومسلم عن معاوية قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول