الشدة والغلظة فلا يناسبها ختمها بما يدل على التفريض على أن هذا لا يكون مدارا لإثبات قوله بأنهما مكيتان، لأن الأجدر هنا أن يكون المقام مقام تفويض تحدثا بما أكرم الله به نبيه فيهما من النّصر والعلبة وفضيحة أعدائه والتوبة على أوليائه. ومما يدل على كونهما مدنيتين وختم هذه السّورة بهما ما ورد عن أبي بن كعب أنه قال هاتان الآيتان (لَقَدْ جاءَكُمْ) إلخ آخر القرآن نزولا. وفي رواية أحدث القرآن عهدا بالله هاتان الآيتان أي من حيث لم ينزل بعدهما إلّا ما ذكرناه آنفا، ومن علم أن كلام الله لا يشبه كلام خلقه علم أن كلامه لا يتقيد بمناسبة.
راجع الآية (٨٢) من سورة النّساء المارة. واعلم أن ما نقل عن حذيفة من قوله أنتم تسمون هذه السّورة بالتوبة وهي سورة العذاب ما تركت أحدا إلّا قالت منه (والله ما تقرءون ربعها) فهو نقل كاذب ورواية مفتراة وخبر بهت وقول زور، لأن تصديق الجملة الأخيرة من هذه الرّواية الواهية عبارة عن وجود النّقص في القرآن العظيم الذي لا يحتمل النّقص ولا الزيادة ولا يتطرقان إليه البتة. كيف وقد حفظه الله من كلّ باطل وتعهد بحفظه كما أشار إلى ذلك في الآية (٣٠) سورة الحجر والآية ٩٢ من سورة فصلت المارتين في ج ٢، وهذا القول المختلق يخرج القرآن العظيم عن كونه حجة ولا خفاء، فإن القول بوجود نقص في القرآن باطل لا يقوله إلّا مبتدع زنديق فاسق فاجر، وهو كالقول بأن سورة الأحزاب كانت أكثر مما هي عليه الآن إذ أكلتها الأرضة وهي في بيت عائشة، فإذا أكلتها من بيت عائشة فهل أكلتها من النّسخ التي عند كتبة الوحي، وهل أكلتها من صدور الحافظين الأمينين. ولما نسخ أبو بكر القرآن من اللّخاف وغيرها هلا اطلع على هذا النّقص وهو خليفة رسول الله الأوّل، وهلا سأل من هذا عمر حين ولي الخلافة ونقل الصّحف إلى بيت حفصة، ولما نقل المصاحف زمن عثمان من قبل كتبة الوحي، هلّا اطلعوا على هذا النّقص الواقع في الأحزاب والتوبة، وهم أعلم النّاس بالقرآن بعد المنزل عليه، قاتل الله المفسدين، قاتل الله المرجفين، قاتل الله الزائفين، ألا يعلمون أن القول بهذا كفر صريح لإنكارء ما تعهد الله بحفظه وحمايته، ومن أوفى بعهده من الله، هذا، وقد أسهبنا بالبحث في هذا في المقدمة في بحث النّزول