واما ابطال النص في الحكم السابق أو انتهاء زمن حكمه وبقاؤه بصفة ذكر يتلى فقط فهو على أحد أمرين:
الأول- أن ينص اللاحق بنسخ السابق.
الثاني- أن يناقض أحدهما الآخر بحيث لا يمكن الجمع أو التخصيص أو التقييد، ولا يوجد من الأول شيء في القرآن إلا قول البعض في ثلاثة مواضع:
الأول: في قوله تعالى: (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) الآية ٦٥ من سورة الأنفال في ج ٣، وقوله بعدها فيها:(الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) فهذان خبران أريد منهما الإنشاء، لان الله تعالى قال في الآية ٤٤ من هذه السورة:(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا) وهو أمر بالثبات، ووجوبه في كل الأحوال، فأراد جل جلاله أن يحدد هذا الأمر فحدده في الآية الأولى بعشرة أمثال المؤمنين المجاهدين في عدوهم، إلا أنه تعالت قدرته لم يقل اثبتوا في هذه الحالة لأن المراد بعث الحمية في نفوسهم، والهاب الغيرة في قلوبهم، ولما اظهر لعباده ما هو معلوم في مكنون غيبه قبلا من ضعفهم عن المقاومة بهذه النسبة اقتضت رحمته الكبرى بهم التخفيف عنهم، فأنزل الآية الثانية لئلا يتيقنوا وجوب الأخذ بالأولى حتما فيلقوا بأنفسهم إلى التهلكة أو يمرنوا أنفسهم على المخالفة فيستحقوا عقابه فحدده بهذه الآية بمثلى المجاهدين، ومن سياقها يعلم أن نسبة الآية الثانية للأولى بنسبة النص المخفف لعارض مع بقاء حكم النص الأول عند زوال العارض وهو الضعف، فكان حكم الآيتين حكم العزيمة مع الرخصة فإذا لم يكن بتلك الفئة المجاهدة التي هي بمقدار عشر العدو المحارب ضعف، ورأت في نفسها قدرة على المقاومة إما لقوة إيمانها وشدة جلدها وعزم حزمها، أو لقوة في عددها أو لوهن في عدوها وعدده، فعليها أن تثبت أمام عدوها مهما بلغ عدده أخذا بالعزيمة لأن الله وصفها بالصبر فمتى وجد الصبر ثبت الحكم الأول.