مع يوم العيد الذي هو يوم الوعد، وذلك أنه عليه السلام بعد أن نجى الله قومه وعبر بهم البحر وزجرهم على ما وقع منهم، وكان وعد قومه بأنه إذا أهلك الله عدوهم يأتيهم بكتاب من عند ربه فيه ما يأتون وما يذرون.
ولما تمّ له ذلك طالبه قومه به، فسأل ربه انجاز وعده، فأمره أن يصوم ذا القعدة ثلاثين يوما فصامها، وأنكر خلوف فمه، فأوحى الله إليه أما علمت أن خلوف فم الصائم عندي أطيب من ريح المسك، ثم أمره أن يصوم عشرة أيام من أول ذي الحجة ويحضر لمناجاته وإنزال الكتاب عليه، فصامها وتوجه إلى المحل الذي أمره أن يحضر فيه «وَقالَ ... لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي» مدة ذهابي لمناجاة ربي «وَأَصْلِحْ» أمورهم واحسن خلافتي فيك وفيهم وراقبهم في حركاتهم وسكناتهم «وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ١٤٢» منهم، وقد أعطى هذه الأوامر أخاه وهو يعلم أنه يصلح ولا يسلك سبيل من أفسد منهم ولكنه من قبيل التوكيد لشدة حرصه عليهم، ولعلمه بصغر عقولهم، ولأنهم قوم ترّبوا على الذل والصغار لا يأمن أن يستميلهم الأشرار، وتوصية لهرون الذي لا يتصور منه وقوع ما أوصاه به، وحذره عنه، على حد قول سيدنا إبراهيم (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) الآية ٢٦٠ من البقرة في ج ٣، وعلى حد قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) الآية ١٣٤ من سورة النساء، أي اثبتوا على إيمانكم وداوموا عليه، فكأنه يقول لأخيه دم على أخلاقك وإصلاحك شأنهم كما كنت أنا وأنت دائبين عليه، وكأنه عليه السلام نفث في روعه أنهم سيزيغون عن عبادة الله بما يسوله لهم شرارهم فأوصى أخاه بما أوصاه لأن الأنبياء ملهمون، وسبب وصيته هذه أن الرئاسة كانت لموسى دون هرون، وقال الشيخ محي الدين العربي الأكبر في فتوحاته ما معناه إن هرون نبي أصالة ورسول بحكم التبعية فلعل هذا الاستخلاف من آثار تلك التبعية، وقيل إن هذا كان كما يقوله أحد المأمورين بمصلحة واحدة إذا أراد الذهاب لحاجة كن عوضا عني، أي ابذل جهدك ووسعك بحيث يكون عملك عمل اثنين، وهو وصية لأن هرون مثل موسى مرسل لبني إسرائيل أيضا.