قال تعالى «وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا» الذي عينّاه له في طور سيناء «وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ» من غير واسطة ولا كيفية. وقد ذهب الحنابلة ومن تابعهم إلى أن كلام الله تعالى حروف وأصوات متقطعة وأنه قديم، وذهب المتكلمون إلى أنه صفة مغايرة لهذه الحروف والأصوات وهي صفة أزلية قديمة، وعليه فإن القائلين بهذا القول قالوا إن موسى سمع تلك الصفة القديمة الأزلية حقيقة وقالوا:
فكما أنه لا تبعد رؤية ذاته وليست جسما ولا عرضا، فكذلك لا يبعد سماع كلامه مع أنه ليس بصوت ولا حرف، ومع هذا فإنه لا يشبه كلام المخلوقين ولا محذور من ذلك، أما من قال إن تكليمه تعالى عبارة عن خلق الكلام منطوقا به في بعض الأجرام كما خلقه محفوظا في الألواح، وهو ما ذهب إليه الزمخشري ومن على طريقته من المعتزلة فهو قول باطل، لانه يقضي بأن تقول الشجرة التي كلمه منها أو الجرم الذي كلمه عليه إنني أنا الله، وإن هذه الشجرة أو ذلك الجرم لا يقول ذلك فظهر فساد مذهبهم في هذا. وإن مذهب أهل السنة والجماعة الذي عليه جمهور العلماء وبعض من المتكلمين سلفا وخلفا، هو أن الله تعالى متكلم بكلام قديم وسكتوا عن الخوض في تأويله، والحقيقة أن الله تعالى كلم موسى بلا واسطة ولا كيفية، وأسمعه كلامه ومناجاته، فاستحلى ما سمع وطمع في رؤيته لغلبة شوقه إليه «قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ» سأل عليه السلام ربه أن يريه ذاته المقدسة مع علمه بأن الله لا يرى في الدنيا بسائق ما هاج به من الغرام في لذة المناجاة وما فاض عليه من الجلال حتى استغرق في بحر محبّته، فسأل الرؤية، ولعل هذه أيضا من جملة ما ألهم بأنه سيأتي نبي بعده يرى ربه بأم عينه فطمع بذلك وطلبها، أو أنه طلب التمكن من الرؤية مطلقا بالتجلي والظهور وهما مقدمان على النظر ومسببان له، ففي الكلام ذكر الملزوم وإرادة اللازم فيكون المعنى: مكني من رؤيتك أو تجلّ علي فأنظر إليك وأراك، ولم يرد إيجاد الرؤية لعلمه باستحالتها في الدنيا فأجابه ربه بالمنع «قالَ لَنْ تَرانِي» وأنت على ما أنت عليه لأن البشر لا يطيق