النظر إليّ في هذه الدار، وفي هذا دليل لأهل السنة والجماعة على جواز الرؤية في الآخرة، لأن موسى اعتقد أن الله يرى، فسأل الرؤية لأنها جائزة واعتقاد جواز ما لا يجوز على الله كفر، ولأنه تعالى لم يقل لن أرى ليكون نفيا للجواز ولو لم يكن مرئيا لأخبر بأنه ليس بمرئي إذ الحالة حالة الحاجة إلى البيان، قال تعالى «وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ» طور سيناء الذي هو قريب منه واسمه زبيد «فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ» بعد أن تجلى عليه وبقي كما هو عليه الآن «فَسَوْفَ تَرانِي» إذا تجليت عليك أيضا، وهذا دليل أيضا على جواز الرؤية لأنه علقها باستقرار الجبل وهو ممكن وتعليق الشيء بالممكن دليل على إمكانه كالتعليق بالممتنع دليل على امتناعه، والدليل على أن استقرار الجبل ممكن قوله (جَعَلَهُ دَكًّا) ولم يقل اندك، وما أوجده الله تعالى كان جائزا أن لا يوجد لو لم يوجده، لأنه مختار في فعله، ولأنه تعالى ما آيسه من الرؤية ولا عاتبه على طلبها كما عاتب نوحا بقوله:
(أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) الآية ٤٦ من سورة هود في ج ٢، ولا يقال أن محمدا من البشر وكيف رأى ربه وقوي على رؤيته، لأن الله تعالى أودع فيه قوة على ذلك مكنته من الرؤية لأنها من خصوصياته صلّى الله عليه وسلم كما خص موسى بالتكليم وقواه على سماع كلامه مشافهة دون غيره، فلا مناقشة في هذا وما عموم إلا خصص.
هذا، ومن قال انّ (لن) للتأييد والدوام واستدل على عدم جواز الرؤية حتى في الآخرة فقد أخطأ إذ لا شاهد له بالعربية على قوله، ولا دليل له في الكتاب والسنة وأن الدلائل لإثبات الرؤية في الآخرة صريحة في قوله تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) الآية ٢٤ من سورة القيامة المارة، وجاء في الصحيحين أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة، ومما ينقض قوله أنّ لن للنفي ألا يرى قوله تعالى في نعت اليهود (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) الآية ٩٥ من البقرة في ج ٣، مع أنهم يتمنونه يوم القيامة في قوله تعالى (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) الآية ٧٧ من الزخرف في ج ٢، وقوله (يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ) الآية ١٧ من سورة الحاقة في ج ٢، وقوله في الآية ٢٥ من سورة مريم الآتية (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا) ت (٢٧)