وقال الكسائي لو كان ذاك أي جعل ما استفهامية، لقال بم بدون الألف مثل عمّ يتساءلون، وبمثل قوله:
علام أقول الرمح أثقل عاتقي ... إذا أنا لم أطعن إذا الخيل كرت
على الاستفهام لأن اللغة الفصحى حذف الألف إذا جرت بحرف الجر فرقا بينها وبين ما الموصولة، ولا تثبت الألف مع حرف الجر إلا ضرورة لقوله:
على ما يشتمني لئيم ... كخنزير تمرّغ في رماد
وقول الآخر:
إنا قتلنا بقتلانا سراتكم ... أهل اللواء فقيما يكثر القتل
فأثبتت ما للضرورة في البيتين، ولا ضرورة هنا لأنه ليس بشعر فتبين أنها هنا مصدرية والله أعلم «وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ» ٢٧ فيها وذلك لما رأت روحه من إكرام الملائكة لها وإكرامهم إياها تمنى رحمه الله المغفرة والكرامة لقومه رحمة بهم وشفقة عليهم ليرغبهم في الإيمان ويحملهم على طاعة الرسل، فلما قتلوه ولم يسمعوا نصحه ولم يلتفتوا إلى رأفته بهم غضب الله عليهم، فعجل عقوبتهم المبينة في قوله جل جلاله «وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ» لأن أمر إهلاكهم أيسر لدينا من ذلك «وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ» ٢٨ جندا من الملائكة لإهلاكهم لأنهم أخس من ذلك «إِنْ كانَتْ» عقوبتهم في الإهلاك ما هي «إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً» من بعض أملاكنا فأمر جبريل فصاح بهم «فَإِذا هُمْ خامِدُونَ» ٢٩ جميعا لا حراك بهم، القاعد قاعدا والقائم قائما والمضجع مضجعا.
روي أن الله تعالى بعث عليهم جبرائيل عليه السلام فأخذ بعضادتي باب مدينتهم وصاح بهم صيحة فماتوا جميعا، وقد شبهت الصيحة بالنار على سبيل الاستعارة المكنية وجيء بالخمود وتخييل لها وقوله خامدون رمزا إلى أن الحي كشعلة من نار، والميت كالرماد، وهو كذلك قال لبيد:
وما المرء إلا كالشهاب وضوءه ... يحور رمادا بعد إذ هو ساطع
وما المال والأهلون الا ودائع ... ولا بد يوما أن ترد الودائع