واعلم أن معنى الوحي الإيماء بالتكليم خفية عن أن يفهمه الغير، وأصله الإشارة السريعة على سبيل الرمز والتعريض، وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب وباشارة بعض الجوارح وبالكتابة، وحمل عليه قوله تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) الآية ١١ من سورة مريم الآتية ولم يتكلم، وحمل على الإيماء قول الشاعر:
نظرت إليها نظرة فتحيرت ... دقائق فكري في بديع صفاتها
فأوحى إليها الطرف أني أحبها ... فأثرّ ذاك الوحي في وجناتها
وقول الآخر:
أشارت بطرف العين خيفة أهلها ... اشارة محزون ولم تتكلم
فأيقنت أن الطرف قد قال مرحبا ... وأهلا وسهلا بالجبيب المتيم
وحمل على الاشارة قوله تعالى:(آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً) الآية ٤١ من آل عمران في ج ٣، (هذا وقد اتخذت الملوك والأمراء حروفا وكلمات بأرقام اصطلحوا عليها وعبروا عنها باسم شفره) كناية عن هذا المعنى، واستنباطا منه، منعا من أن يفهم الغير ما يتخابرون به، لأن الله تعالى علم البشر كيف يتخاطبون، وكيف يتنعمون، وكيف يعذبون ويعذبون، مما وصفه من أحوال أهل الجنة والنار، وقصه في كتابه المنزل هذا وكتبه السابقة أيضا، وجعل أوائل السور رموزا بينه وبين حبيبه، فلا يعرف معناها إلا هما كما سنبينه في مواضعه إن شاء الله، هذا وان القول الجامع في معنى وحي الله لأنبيائه، هو إعلام خفي سريع خاص بمن بوحيه اليه، بحيث يخفي عن غيره الملاحق له، كما كان يوحي اليه في فراش عائشة فيعلم ما هو المراد وهي لا تدري ما هو، وكذلك كان يوحي اليه بمحضر من أصحابه فيعي ما يتلقاه، وهم لا يعلمون شيئا منه إلا تغيّر حال الرسول عما كان عليه قبل الوحي لأنه عليه السلام كان يعتريه ثقل وشدة حال نزوله حتى أنه ليعرق في الوقت البارد، من عظم ما يلاقي من هيبة كلام الرب جل جلاله.