صرف جوارحهم إلى ما خلقت لها «بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا» ٤٤ من الأنعام لأنها تهتدي لمرعاها ومأواها وتتقي الحر والبرد، وتصرف الضار من النبات، والنافع والعذاب والمالح والمر من الماء، وتنقاد لمن يتعهدها، وتنفر من غيره، وتسبّح ربها بما ألهمت به من أنواع التسبيح كما سيأتي في الآية ٤٣ من سورة الإسراء الآتية، وهم لا يعقلون شيئا من ذلك، مع علمهم بأن الله خلقهم ورزقهم، ولم ينقادوا إليه، ولم يتبعوا رسله. ونظير هذه الآية، الآية ١٧١ من البقرة في ج ٣ من حيث المعنى، ثم طفق يذكر لهم بعض دلائل توحيده فقال عز قوله «أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ» وهو ما تنسخه الشمس من طلوعها إلى الزوال والفيء ما ينسخ الشمس من الزوال إلى الغروب، فهو عكسه، وكل منهما متحرك بحركة لطيفة لا تدرك، فهو من قبيل الموجود المعدوم كفلكة المروحة لا تكاد تراها وهي موجودة. قال الإمام الغزالي في تشبيه الدنيا من حيث تلقيها بالظل:
إنه متحرك ساكن، متحرك في الحقيقة ساكن في الظاهر، لا تدرك حركته بالبصر بل بالبصيرة الباطنة (ص ١٨٦ ج ٣ في كتاب ذم الدنيا) أي ألم تر أيها الإنسان إلى صنع ربك البديع، إذ ليس المقصود هنا رؤية الله تعالى ذاته، لأن الرؤية هنا بصرية بدليل تعديتها بإلى «وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً» ثابتا دائما لا تذهب الشمس، وفي هذا تنبيه على أن لا دخل للأسباب العادية من قرب الشمس إلى الأفق الشرقي على للقول بأن المراد بالظل ما بين طلوع الفجر والشمس أو ما بين غروبها وطلوعها، أو قيام الشاخص الكثيف على القول بأن المراد مطلق الظل وهو الأولى على ظاهر القرآن، وإنما المؤثر فيه حقيقة المشيئة والقدرة الإلهية وحدها «ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا» ٤٥ فلولاها لما عرف الظل، ولولا النور ما عرفت الظلمة، والأشياء تعرف بأضدادها «ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً» ٤٦ جدا أي أزلناه بعد ما أنشأناه بتسليط الشمس عليه شيئا فشيئا، بصورة محسوسة فعلا غير محسوسة نظرا لدقة السير، ذلك صنع الخالق المبدع من غير عسر عليه دلالة على توحيده، وجاء الخطاب في هذه خاصا كما هو شأن كل خطاب مثله،