أسرى به وسرى به، ولا يقال صرى وأسرى إلا إذا كان المسير ليلا «بِعَبْدِهِ» محمد صلّى الله عليه وسلم، وأضافه لنفسه اضافة تشريف وتبجيل وتعظيم، لأنه صلّى الله عليه وسلم بلغ في هذا الإسراء أعلى الدرجات، ودنا من أرفع المراتب، وعلى ما لم يعلو عليه أحد روي أنه أوحي اليه بم شرفتك يا محمد، قال بنسبتي إليك يا رب بالعبودية، فأنزل الله هذه الآية العظيمة «لَيْلًا» والفائدة من ذكر كلمة ليلا مع أنه يغني عنه لفظ أسرى فضلا عن معلوميّته بمقتضى اللفظ، هو تقليل مدة الإسراء الذي يدل عليه تنكير كلمة ليلا مع عظم ما وقع فيها من المعجزات الآتية الذكر وغيرها، وإنما خص الليل لمزيد الاحتفال به صلّى الله عليه وسلم لأنه وقت الخلوة والاختصاص ومجالة الملوك، ولا يكاد يدعو الملك لحضرته ليلا إلا من هو جليل عنده، وهو أصل النهار والاهتداء به للقصد أبلغ، ولأن المسافر قد يقطع بالليل مالا يقطعه بالنهار ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم عليكم بالدلجة فإن الأرض تطوى بالليل مالا تطوى بالنهار: وجاء في المثل (عند الصباح يحمد القوم السري) وقد أسرى به ذهابا وإيابا ببعض الليل مسافة شهرين في الأرض «مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» مكة المكرمة «إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى» البيت المقدس، وسمي أقصى إذ لم يكن إذ ذاك وراءه مسجد، أما الآن والحمد لله فصار وراءه وبينهما مساجد كثيرة، وأمامه ويمينه وشماله إلى أقصى الجهات المعمورة، وفي أعظم البلاد الأجنبية التي تبعد عن مكة أشهرا، فلم تبق قارة إلا وفيها مساجد للمسلمين «الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ» من جميع أطرافه بركة دينية معنوية، وهي جعله مهبط الوحي وكفات الأنبياء ومقرهم وقبلتهم وبركة دنيوية حسية بالأنهار والأشجار، وهو القبلة الأولى واليه محشر الخلائق، وقد أسرينا بمحمد هذا الإسراء البديع وشرفناه بهذا التشريف الذي لم يكن لأحد من قبله «لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا» البديعة وعجائب قدرتنا المنيعة، ونشرفه بمقامنا العظيم، ونسرّه بكلامنا الجليل، ونمتّعه بأشياء كثيرة، ونتجلى عليه بذاتنا الكريمة، واعلم أن لفظ كريم أفضل من غيره من الصفات الممدوحة التي يوصف بها، إذ اختاره لذاته المقدسة دون غيره، وهو أعلم بما يوصف به نفسه وما هو أليق بذاته المقدسة، ولذلك وصفه بها، قال تعالى:(وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ)