النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- نَهاهُم أن ينتفعوا من المَيْتَة بإِهابٍ أو عَصَبٍ، بعد أن كان أَذِنَ لهم في ذلك، لكنَّ هذا قد يكون قَبْلَ الدِّباغ، فيكون قد أَرْخَصَ؛ فإنَّ حديث الزُّهريِّ الصَّحيحَ يُبيِّنُ أنَّه كان قد رَخَّص في جُلُود المَيْتَة قَبْلَ الدِّباغ، فيكون قد أرخص لهم في ذلك ثُمَّ لمَّا نَهَى عن الانتفاع بها قَبْلَ الدِّباغ نَهاهُم عن ذلك؛ ولهذا قال طائفةٌ من أهل اللُّغة: إنَّ الإِهاب اسمٌ لما لم يُدْبَغ، ولهذا قَرَنَ معه العَصَبَ، والعَصَبُ لا يُدْبَغ.
أحدُهُما: أنَّ ذلك طاهرٌ؛ كقول أبي حنيفة وغيره، وهو إحدى الرِّوايتين عن أحمد.
والثَّاني: أنَّه نَجِسٌ؛ كقول مالكٍ والشَّافعيِّ، والرِّواية الأُخرى عن أحمد.
وعلى هذا النِّزاع انْبَنَى نِزاعُهُم في جُبْن المَجُوس؛ فإنَّ ذبائح المَجُوس حَرامٌ عند جماهير السَّلَف والخَلَف، وقد قيل: إنَّ ذلك مُجمَعٌ عليه بين الصَّحابةِ؛ فإذا صَنَعوا جُبْناً -والجُبْنُ يُصْنَع بالإِنْفَحَة- كان فيه هذان القولان.
والأظْهَر أنَّ جُبْنَهُم حلالٌ، وأنَّ إنْفَحَة المَيتَة ولَبَنَها طاهرٌ؛ وذلك لأنَّ الصَّحابةَ لمَّا فَتَحوا بلاد العراق أَكَلوا جُبْنَ المَجُوس، وكان هذا ظاهراً شائعاً بينهم، وما يُنْقَل عن بعضهم من كراهة ذلك ففيه نَظَرٌ؛ فإنَّه من نَقْلِ بعض الحِجازيِّين، وفيه نظرٌ. وأهل العراق كانوا أعلم بهذا؛ فإنَّ المَجُوس كانوا ببلادهم ولم يكونوا بأرض الحِجاز، ويدلُّ على ذلك أنَّ سَلْمان الفارسيَّ كان هو نائب عُمَرَ بن الخَطَّاب على المدائن، وكان يدعو الفُرْسَ إلى الإسلام، وقد ثبت عنه أنَّه سُئِلَ عن شيءٍ من السَّمْن والجُبْن والفِراء؛ فقال: (الحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللهُ فِي كِتابِهِ، وَالحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللهُ فِي