ثُمَّ من استثنى الكثير قال: هذا يَشُقُّ الاحتراز من وقوع النَّجاسة فيه، فجعلوا ذلك موضع استحسانٍ؛ كما ذهب إلى ذلك طائفةٌ من أصحاب الشَّافعيِّ وأحمد.
وأمَّا أصحاب أبي حنيفة فبنوا الأمر على وصول النَّجاسة وعدم وصولها، وقَدَّروه بالحركة، أو بالمساحة في الطُّول والعَرْض دون العُمْق.
والصَّواب: هو القول الأوَّل، وأنَّه متى عُلِمَ أنَّ النَّجاسة قد استحالت؛ فالماء طاهرٌ؛ سواءٌ كان قليلاً أو كثيراً، وكذلك في المائعات كُلِّها؛ وذلك لأنَّ الله تعالى أباح الطَّيِّبات وحَرَّم الخبائث، والخبيث مُتميِّزٌ عن الطَّيِّب بصفاته، فإذا كانت صفات الماء وغيره صفات الطَّيِّب دون الخبيث، وَجَبَ دخوله في الحلال دون الحرام.
وأيضاً؛ فقد ثبت من حديث أبي سعيدٍ (أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قِيلَ لَهُ: أَنَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ؛ وِهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فِيهَا الحِيَضُ، وَلُحُومُ الكِلَابِ، وَالنَّتَنُ؟ فقال: المَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ). قال أحمد: حديث بئر بُضاعَة صحيحٌ.
وهو في (المُسند) أيضاً عن ابن عبَّاسٍ (أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: المَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ). وهذا اللَّفظُ عامٌّ في القليل والكثير، وهو عامٌّ في جميع النَّجاسات.
وأمَّا إذا تغيَّر بالنَّجاسة؛ فإنَّما حُرِّم استعمالُه؛ لأنَّ جُرْمَ النَّجاسَة باقٍ؛ ففي استعمالِه استعمالُها، بخلاف ما إذا استحالَت النَّجاسة؛ فإنَّ الماء طَهورٌ وليس هناك نجاسةٌ قائمةٌ.
وممَّا يُبيِّن ذلك: أنَّه لو وقع خَمْرٌ في ماءٍ، واستحالَت، ثُمَّ شَرِبَها شارِبٌ، لم يكن شارباً للخَمْر، ولم يجب عليه حَدُّ الخَمْر؛ إذ لم يَبْق شيءٌ من طَعْمِها وَلَوْنها وريحها، ولو صُبَّ لَبَن امرأةٍ في ماءٍ واستحال حتَّى لم يَبْق له أثرٌ، وشَرِبَ طِفْلٌ ذلك الماء، لم يَصِرْ ابنَها من الرَّضاعة بذلك.