وهذه المسألة خَلَتْ عنها أكثر كُتُب الأصحاب فيما وَقَفْتُ عليه، وذَكَرها الشيخ محيي الدِّين النَّوويُّ رحمه الله تعالى في (شرح المُهَذَّب) فقال: استعمال ماء هذه الآبار المذكورة مكروهٌ أو حَرامٌ إلَّا لضرورةٍ؛ لأنَّ هذه سُنَّةٌ صحيحةٌ لا مُعارِض لها، وقد قال الشافعيُّ رحمه الله تعالى: إذا صَحَّ الحديث فهو مَذْهَبي؛ فيمتنع استعمال آبار الحِجْر إلَّا بئر النَّاقة، ولا يُحكَم بنَجاسَتها؛ لأنَّ الحديث لم يَتَعَرَّض للنَّجاسة، والماء طهورٌ بالأصالة. هذا لفظُه.
والذي اختاره غيره ممَّن تكلَّم على هذا الحديث -وهو الإمام أبو العبَّاس القرطبيُّ-: أنَّ هذا حُكْمٌ على هذا الماء بالنَّجاسة؛ لأنَّ هذا حُكْمُ ما خالَطَتْه النَّجاسة أو كان نَجِساً، ولأنَّه لولا نجاسَتُه لما أُتلِفَ الطعامُ المحترم شَرْعاً مِنْ حيث إنَّه ماليَّة، وأنَّه غذاء الأبدان وقَوامُها.
وهذا هو الذي يظهر في هذه المسألة، فقد استدلَّ أصحابنا بمِثْلِ هذا الحكم على نجاسة سُؤْر الكَلْب لمَّا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا وَلَغَ الكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ، فَلْيُرِقْهُ ... ) الحديث. أخرجه مسلم؛ فقالوا: قد نَهَى -صلى الله عليه وسلم- عن إضاعة المال، فلو لم يكن هذا نَجِساً لما أَمَرَنا بإراقته.
وكذلك قالوا في أَمْرِه -صلى الله عليه وسلم- بكَسْر القُدور يوم خَيْبَر أوَّلاً، ثُمَّ بغَسْلِها ثانياً لمَّا طُبِخَ فيها لحمُ الحُمُر الأهليَّة، أنَّ ذلك يدلُّ على نجاستها، وأنَّ الذَّكاة لا تُطَهِّر ما لا يُؤكَل لحمُه.
وأيضاً فالمَنْع من استعمال هذا الماء، والأَمْرُ بإتلاف ما خالَطَه من الطَّعام المحترم دائرٌ بين أن يكون تَعبُّداً، أو لمعنًى معقولٍ، وحَمْلُه على الثاني أَوْلَى؛