حديثٌ آخر: أخرج التِّرمذيُّ وابن ماجه والحاكِم في (المُستدرَك) عن سَلْمانَ الفارسيِّ قال: (سُئِلَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ الجُبْنِ وَالفِرَاءِ، فَقَالَ: الحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللهُ فِي كِتَابِهِ، وَالحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عُفِيَ عَنْهُ)، هذا الحديث بنصِّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صريحٌ في إباحة الفِراء، كما هو نصٌّ استدلُّوا به في إباحة الجُبْنِ؛ ولهذا بَوَّبَ عليه التِّرمذيُّ:(بابُ لُبْسِ الفِراءِ)، وإنَّما وقع السُّؤال عن هذين بخصوصهما؛ لما قد يُتَوَهَّمُ من نَجاسَتِهما؛ لما في الجُبْن من الإنْفَحَة، ولكَوْن الفِرَاء من مَيْتَةٍ. ولو كان المرادُ الفِرَاء المُذكَّاة لم يَحْسُن السَّؤال عنها؛ للعِلْم بطَهارتِها قَطْعاً، وقد أجاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنهما معاً بأنَّهما ممَّا عفا الله عنه.
ولهذا الحديث شاهدٌ موقوفٌ على سَلْمان، وأُخرج عن الحَسَنِ مُرْسَلاً، قال التِّرمذيُّ: وفي الباب عن المُغيرة؛ يشيرُ إلى أنَّ للحديث شاهداً من حديث المُغيرة.
وله شاهدٌ آخر عن أنسٍ؛ أخرجه الطَّبرانيُّ في (الأوسط) عن راشِدٍ الحِمَّانِيِّ قال: (رَأَيْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَلَيْهِ فَرْوٌ أَحَمَرُ، فَقَالَ: كَانَتْ لُحُفُنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-؛ نَلْبَسُهَا وَنُصَلِّي فِيهَا)، رجال إسناده ثقاتٌ، إلَّا أحمد بن القاسم. فهذا أيضاً من الأدلَّة.
ولو كان الفَرْوُ الذي رآه على أنسٍ من مُذكًّى لم يكن مَحَلَّ إنكارٍ حتَّى احتاج أنسٌ إلى الاستدلال على طهارتها بأنَّهم كانوا يَلْبَسونها ويُصَلُّون فيها على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ولأصل حديث سَلْمانَ شاهدٌ صحيح من حديث أبي الدَّرْداء؛ أخرجه البزَّار في (مسنده)، وابن المُنْذِر، وابن أبي حاتَم في (تفسيرهما)، والطَّبرانيُّ في (الكبير)، والحاكم في (المُستدرَك) وصحَّحه، وأقرَّه الذهبيُّ في (مختصره)، وابن مَرْدَويه في (تفسيره)، عن