للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

-صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: (ذَكَاةُ كُلِّ مَسْكٍ دِبَاغُهُ)، فهذا أيضاً صريحٌ في أنَّ الدِّباغ يُطَهِّر الفِراء مُطلَقاً؛ جِلْداً أو شَعْراً.

وممَّا يُستدلُّ به لطهارة الشَّعْر بالدِّباغ: إطلاق الأحاديث السابقة في دِباغ إِهاب الشَّاة؛ فإنَّه لو كان الشَّعْر لا يَطْهُر بالدِّباغ لبيَّن لهم ذلك وقال: انزعوا شَعْرَها، وادْبَغُوا الجِلْد وانتفعوا به وحده؛ لأنَّه مَحَلُّ بيانٍ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز، فلمَّا أَطلَقَ ولم يُفَصِّل دَلَّ على أنَّ الشَّعْر يَطْهُر بالدِّباغ تبعاً للجِلْد.

وممَّا يُستدلُّ به لذلك قوله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل: ٨٠]. وقول الأصحاب: إنَّ هذه الآية محمولةٌ على شَعْر المأكول إذا ذُكِّي وأُخِذَ في حياته.

يُجاب عنه: بأنَّ الآية خوطِبَ بها المشركون من أهل مكَّة، ولهذا قيل في أواخر تعداد النِّعَم: {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} [النحل:٨١]، وقد كان المشركون يذبحون للأصنام، وكان النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- قَبْلَ البِعثَة يتوقَّف في أَكْل ذبائحهم، فكانت ذبائحهم مَيْتَةً، وقد وردت الآية امتناناً عليهم بالانتفاع بشُعُورها، فدلَّ على أنَّ الدِّباغ طَهَّرَها.

وقول بعض الفقهاء: إنَّ (مِنْ) في الآية للتَّبعيض، والمراد البعض الطَّاهر؛ يُنازَعُ فيه بأنَّ (مِنْ) هذه ليست هي التَّبعيضيَّة، بل هي التَّجريديَّة، كما يفهمه مَنْ له خبرة بعِلْم البيان، وكذلك هي في الجملتين الأُولَيين في الآية؛ فهي كالمثال الذي يُمثِّل به أرباب البيان؛ وهو قولهم: لي من فُلانٍ صديقٌ حميمٌ؛ أي: أنَّ فلاناً نَفْسَه صديقٌ حميمٌ، وليس المراد أنَّ بعضَه صديقٌ، وهذا معروفٌ يُسمَّى بالتَّجريد عند عُلماء البلاغة.

<<  <  ج: ص:  >  >>