وقال أهل المدينة، وسائر أهل الحجاز، وأهل الحديث كُلُّهم: كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وحُكمه حُكم المُتَّخَذ من العِنَب.
ومن الحُجَّة لهم: أنَّ القرآنَ لمَّا نَزَلَ بتحريم الخَمْرِ، فَهِمَ الصَّحابةُ -وهم أهل اللِّسان- أنَّ كُلَّ شيءٍ يُسمَّى خَمْراً يدخل في النَّهي؛ فأراقوا المُتَّخَذَ من التَّمْر والرُطَب، ولم يَخُصُّوا ذلك بالمُتَّخَذ من العِنَب. وعلى تقدير التَّسليم؛ فإذا ثبت تسمية كُلِّ مُسْكِرٍ خَمْراً من الشَّارع، كان حقيقةً شرعيَّةً، وهي مُقدَّمةٌ على الحقيقة اللُّغويَّة، كما تقرَّر في الأصول.
والجواب عن قوله: إنَّ تحريمَ الخَمْرِ قطعيٌّ، وتحريم ما عدا المُتَّخَذِ من العِنَب ظنيٌّ: بأنَّ اختلاف مُشْتَرِكَيْنِ في الحُكْمِ في الغِلَظ لا يلزم منه افتراقهما في التَّسمية؛ كالزِّنا مثلاً؛ فإنَّه يَصدُقُ على مَنْ وَطِئَ أجنبيَّةً، وعلى مَنْ وَطِئَ امرأة جارِه، والثاني أغلظ من الأوَّل، كما ثبت في الحديث الصَّحيح أنَّ ذلك من أكبر الكبائر، وكذلك يَصدُق اسم الزِّنا على وَطْء المَحْرَم، وهي أغلظ من وَطْء من ليست كذلك.
وأيضاً: الأحكام الشرعيَّة لا يُشترَط فيها الأدلَّة القطعيَّة، ولا يلزم من القَطْع بتحريم المُتَّخَذ من العِنَب وعدم القَطْع بتحريم المُتَّخَذ من غيره أنْ لا يكون حَراماً، بل يُحْكَم بتحريمه إذا ثبت بطريقٍ ظَنِّيٍّ، فكذلك يُحكم بتسميته إذا ثبت بمثل تلك الطريق. وقد تقرَّر أنَّ اللُّغة ثبتت بالآحاد، وكذلك الأسماء الشَّرعيَّة.
وأمَّا قولُه: إنَّ الخَمْر إنَّما سُمِّي خَمْراً لتَخَمُّره لا لمُخامَرَة العَقْل؛ فهذا مع كونه مُخالفاً لأقوال أئمَّة اللُّغة -كما تقدَّم- هو أيضاً مُخالفٌ لما أسلفنا عنه صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم من الحُكْم على كُلِّ مُسْكِر بأنَّه خَمْرٌ، ومُخالفٌ لما أخرجه أحمد ومسلم وأهل السُّنن