فذكروا له شأنه كما هو عليه، ففال لهم «اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً» وهذا بوحي من الله عز وجل، وهذا القميص قميص إبراهيم عليه السلام الذي ألبسه الله إياه حين ألقي بالنار بواسطة جبريل عليه السلام، إذ ألقي فيها عريانا كما ألمعنا إليه في الآية ٣١/ ١٥ المارتين، لأن فيه ريحه وريح الجنة، وهذا أمر معلوم عقلا، فضلا عما فيه من الكرامة، لأن الحبيب إذا رأى ثوب حبيبه أو شيئا مما يلازمه ينشرح صدره وتزول كآبته، وقيل في هذا المعنى:
وإني لأستشفي بكل غمامة ... يهب بها من نحو أرضك ريح
حتى إن الرجل وهو في سكرات الموت إذا كان له غائب عزيز وقيل له ها هو جاء يفتح عينيه وتبدو عليه ملامح السرور، حتى إنه إذا جيء له بشيء من ملابسه يضمه ويشمه وقال لإخوته أيضا «وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ٩٣» لينعموا بآثار ملكي كما اغتموا بأخبار هلكي، فأخذوه فرحين مسرورين قاصدين تبشير أبيهم به كما كدروه قبلا بفقده تكفيرا لما وقع منهم عنده، قال تعالى «وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ» عن أرض مصر وتوجهت لأرض كنعان «قالَ أَبُوهُمْ» لأحفاده ومن عنده من أهله «إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ ٩٤» تنسبوني إلى الخرف والهرم وقلة العقل والجهل، وأصل التفنيد ضعف الرأي فقال أفند الرجل إذا خرف وفند إذا جهل، قال الأصمعي: إذا كثر كلام الرجل من خرف فهو التفنيد، أي لولا تنسبوني لذلك لصدقتموني، قالوا إن الريح استأذنت ربها بإيصاله ريح يوسف إلى يعقوب على مدة ثمانين فرسخا ولا يبعد على الله تعالى إيجاد ريح القميص بحاسة يعقوب عليه السلام، أو أنه أمر ريح الصبا بنقل ريحه إليه حين أعطاه يوسف لإخوته، وما ذلك على الله بعزيز، قال أهل المعاني إن الله تعالى أوصل ريح يوسف عند انقضاء المحنة وحلول وقت السرور من محله إليه بلحظة واحدة ومنع دخول هذا إليه مدة أربعين سنة من نفس المحل، ليعلم خلقه أن كل سهل زمن الإدبار صعب، وكل صعب زمن الإقبال سهل ثم انهم لم يلقوا بالا لكلامه وأكدوا له ما ظنه فيهم إذ «قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ ٩٥» الذي كنت عليه ولا تزال تلهج به من ذكر يوسف،