وهذا القول منهم على سبيل السخرية والاستهزاء، ولو قالوه اعتقادا جازما لأصابوا المرمى، ويؤذن قولهم أن لا فائدة من بعثة الرسل، لأن المشيئة الله، لو أراد لم يحرم شيئا ولم نعبد شيئا، وهذا أيضا اعتراض منهم على الله جار مجرى العلة في أحكام الله تعالى، وهو باطل لأنه لا يجوز أن يقال لم فعل الله كذا، ولم لم يفعل كذا، لأن أفعال الله لا تقلل، وكان في حكمة الله تعالى وسنته إرسال الرسل ليأمروا عباده بعبادته، وينهوهم عن الإشراك به والتعدي على الغير، وإن الهداية والإضلال أمرهما في الحقيقة إليه، وهذه سنته في عباده يهدي من يشاء ويضل من يشاء لا اعتراض عليه. ولما كانت سنته بإرسال الرسل إلى الكافرين قديمة لا محدثة ولا طارئة ولم يبتدعها ببعثة محمد صلّى الله عليه وسلم فيهم كان قولهم (لو شاء الله) إلخ جهلا، لاعتقادهم أن كون الأمر كذلك يمنع من جواز بعثتهم وهو أيضا اعتقاد باطل. قال تعالى «كَذلِكَ» مثل فعلهم هذا «فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» إذ كذبوا الرسل وأحلوا ما حرم الله وحرموا ما أحله «فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» ٣٥ هذا استفهام تقريري، أي ليس عليهم إلا التبليغ القولي وليس عليهم قسرهم على الإيمان وجبرهم على الهداية وإجبارهم على الرشد، راجع الآية ١٤٩ من سورة الأنعام المارة «وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا» كما بعثناك في أهل مكة وأمرنا كلا من الرسل أن يقولوا لقومهم «أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ» مبالغة في الطغيان والطاغية ويطلق على كل من عبد من دون الله حاشا الملائكة وعزيز وعيسى وعلي عليهم السلام وغيرهم من الصالحين لعدم علمهم ورضاهم «فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ» فتاب وأناب واتبع طريقهم الموصل إليه ففاز برضائه «وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ» فلم ينتفعوا بهدى رسولهم لسابق ثقائهم في علم الله وإرادته إضلالهم لسوء طويتهم فهلكوا وخابوا وخسروا الدنيا والآخرة، وهذه الآية كافية للدلالة على أن الله تعالى هو الهادي والمضل دون اعتراض، إذ لا يقع في ملكه إلا ما يريد «فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا» أيها الناس «كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ» ٣٦ حيث بقيت مساكنهم خاوية بسبب العذاب الذي حل