قبلتهم إلا حسدا لعلمه أنهم على الحق وأن دينهم أعدل الأديان. قال تعالى «وَكَذلِكَ» كما جعلنا شريعتكم وسطا بين شريعة موسى وعيسى، لأن الأولى في غاية من الشدة والثانية في نهاية اليسر، فكانت بين الصعوبة والسهولة جعلنا قبلتكم وسطا بين المشرق والمغرب أي بين قبلتي اليهود والنصارى، لهذا «جَعَلْناكُمْ» يا أمة محمد «أُمَّةً وَسَطاً» لأنكم خير الأمم. وجاء في الخبر: خير الأمور أوساطها. قال زهير:
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم ... إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم
وإنما جعلناكم أمة وسطا يا أمة محمد «لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ» يوم القيامة في المشهد العظيم بأن الرسل بلغوا أممهم ما أرسلهم الله به «وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً»
بأنكم آمنتم به وصدقتموه. ونظير هذه الآية الآية الأخيرة من سورة الحج الآتية. قال بعض المفسرين شهيدا بمعنى رضيّا، إذ لو كان القصد الشهادة لقال لكم، لأن الشهادة لهم لا عليهم والشهادة للنفع تتعدى بإلى وبالضر بعلى، وهو وجيه من حيث اللغة، ولكن الأول أولى لمناسبة المقام، فإن الرسل تشهد على أممها بالخير والشر لا بالخير فقط ليحسن القول بذلك فضلا عن أن حروف الجر تخلف بعضها، تدبر. روى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يجاء بنوح وأمته يوم القيامة فيقال له هل بلغت؟
فيقول نعم أي وربي، فيسأل أمته هل بلّغكم؟ فيقولون ما جاءنا من نذير، فيقال لنوح من يشهد لك؟ فيقول محمد وأمته، فيجاء بكم فتشهدون، ثم قرأ الآية، زاد الترمذي وسطا عدولا. واعلم أن الشهادة قد تكون بلا مشاهدة كالشهادة بالتسامع في الوقف والموت وغيرهما مما هو مبين في كتب الفقه، ولما كانت هذه الأمة سمعت من رسولها الصادق ما قصه عليها من أخبار الأمم وهو حقّ لا مرية فيه جاز لهم أن يشهدوا على الأمم بالتبليغ من قبل رسلهم، وهذا أقوى من المشاهدة لأن البصر قد يخطىء، وحضرة الرسول لا يخطىء وهو منزه عن الخطأ بالتبليغ، ومن هذا شهادة خزيمة رضي الله عنه التي عدها الرسول بشهادتين، لأنه كان جازما أن الرسول صلّى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق، فشهد على ما أخبره به وسمي ذا الشهادتين.